"سنوات النار والثلج" (9- 10): "صدام" يعفو عن طالباني.. و"جلال" يرد الجميل بعد الاحتلال
كيف بدأ صدام حسين حياته شابا تقدميًا يؤمن بحقوق الأكراد وانتهى ديكتاتورًا متشددًا؟
مشروع لم يكتمل لرجل دين وهو طفل، مقاتل يحمل السلاح ويعيش في الجبال، سياسي مخضرم يصبح أول رئيس جمهورية كردي للعراق؛ هكذا عاش الرئيس الراحل جلال طالباني حياة حافلة بين "النار والثلج"، يمكننا أن نتعرف منها - إلى جانب سيرته الذاتية الثرية – على تاريخ العراق والعالم العربي في أكثر من نصف قرن.
كتاب "مذكرات جلال طالباني.. سنوات النار
والثلج"، للكاتب معد فياض، يقترب للغاية من الزعيم السياسي الكردي، في مهمة
شاقة وثرية، عايش فيها محرر المذكرات الرئيس الذي يتمتع بالحيوية واليقظة، في أكثر
من مدينة، وأنتج لنا العمل الصادر قبل سنتين عن دار "سطور" في بغداد.
ولا يخفي المؤلف إعجابه الشديد بشخصية "طالباني"، بل إن هذا هو ما دفعه لتحرير مذكراته التي يجدها مهمة شاقة، إذ "كيف يمكن لنا أن نلملم أطراف ذكريات رجل بدأ ينسج تاريخه الاجتماعي والثقافي والسياسي وهو في العاشرة من عمر طفولته".
"الرئيس نيوز" يعرض على حلقات مذكرات أول رئيس كردي
في تاريخ الدولة العراقية، وسابع رئيس عراقي، ذلك الرجل الذي رفع شعار
"الحرية لكردستان، والديمقراطية للعراقيين".
عندما اندلعت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، أوقف
الأكراد معاركهم ضد قوات صدام حسين لأنه لا يصح أن يكونوا شوكة في ظهر بغداد وهي
في حرب مع دولة أخرى.
في تلك الفترة كان لجلال طالباني وقادات الاتحاد الوطني
الكردستاني اتصالات مع ضباط يساريين بالجيش العراقي، للتخطيط لانقلاب على صدام
حسين.
تلك كانت محاولة انقلاب واحدة ضمن محاولات كثيرة لا
يتحرج جلال طالباني في أن يعترف بأنهم خططوا لتنفيذها للإطاحة بصدام حسين، منذ
تولي "البعثيين" السلطة بشكل منفرد سنة 1968 إلى ما قبل سقوط النظام على
يد الاحتلال الأمريكي في 2003 بفترة وجيزة.
على أي حال، فتحت مبادرة وقف القتال من جانب الأكراد
أثناء الحرب الباب أمام مفاوضات مع الحكومة، وكانت الأجواء إيجابية للغاية لتوقيع
اتفاق يمنح الأكراد حقوقهم، وحُسمت أغلب نقط الخلاف الحدودية لما بعد الحرب مع
إيران، لكن عادت الأوضاع إلى المربع صفر مرة أخرى.
فمن ناحية، لعبت المفارقة دورا بالنسبة ليوم توقيع
الاتفاق، إذ اتفق الجانبان على الثلاثاء فاقترح صدام الخميس فعدله طالباني إلى
السبت، ليتعطل الأمر بفعل ضغوط سياسية لوفد تركي زار بغداد في نفس اليوم.
لكن الأكراد كانوا مقتنعين أنهم حتى لو وقعوا الاتفاقية
الخميس قبل زيارة الأتراك وضغوطهم على صدام، لكان الأخير رجع في كلامه عموما وفضل
تعليق المشكلة على حلها، كعادته مع قضية الأكراد منذ منتصف السبعينيات.
وسط كل ذلك، يمر جلال طالباني بذاكرته على شخصيات عراقية
كانت ملء السمع والبصر لسنوات طويلة، مثل عزة الدوري الذي كان شاهدا على المفاوضات
آنذاك.
يقول طالباني إن نائب صدام حسين كان على عكس ما يشاع
عنه، "فهو رجل ذكي ويعرف ما تريده الحكومة أو النظام، لكنه كان مخلصا بصورة
مطلقة لصدام حسين ومحدود الصلاحيات، لهذا لم يكن بيده أي قرار".
ولأن صدام لا يلجأ للمفاوضات مع الأكراد إلا في أوقات
ضعفه، فإن جولة بالمفاوضات التالية كانت بعد عملية "عاصفة الصحراء" التي
أخرجت الرئيس العراقي من الكويت.
في تلك المرة، التي ستكون المقابلة الأخيرة بين جلال
طالباني وصدام حسين، ذهب الزعيم الكردي إلى بغداد بمقترحات أشمل عن الديمقراطية
وإصلاح النظام السياسي وحقوق الإنسان، بجانب قضية كردستان بالطبع.
وافق صدام على كل المطالب والمقرحات، وعندما تشكلت
اللجان لمناقشة التفاصيل الفرعية تراجع الرئيس العراقي عن كل شيء، يفسر طالباني:
"كانوا لا يزالون يشعرون بمرارة الهزيمة في الكويت عندما وافقوا على
مقترحاتنا، لكنهم في الجولة الثانية من المفاوضات حيث وجدوا أنفسهم مستمرين
بالسلطة تراجعوا".
هكذا ستضيع فرصة جديدة وأخيرة في عهد صدام حسين لإنهاء
مشكلة الحكم الذاتي للأكراد، وستتبقى مناوشات شخصية بينه وبين زعيم الأكراد، الذي
سيرفض أن تشمله قرارات العفو عن مطلوبين أو مسجونين بعبارة: "يُستثنى من هذا
القرار العميل جلال طالباني".
الأمر لم يتوقف عند هذا فقط، بل كانت هناك محاولات لاغتيال
طالباني من قبل أجهزة الأمن الرسمية، وفي مرة كان المقابل مليوني دولار.
لكن هذه الأجواء العدائية بين صدام وجلال على هامش
القضية الكردية، ستهدأ عندما يخطب الرئيس العراقي في أربيل ويقرر عدم استثناء
طالباني من قرار بالعفو، ويفسر قراره قائلا: "في العهد العثماني حاصر والي
بغداد عشيرتنا وقاتلها فهربت من تكريت إلى كردستان واستقبلوا من قبل الطالبيين
فأكرموهم لمدة عامين، ومن ثم تدخل الطالبيون لدى الباب العالي في إسطنبول ليعفو عن
أجدادنا".
تلك الحسابات القبلية انسحب أيضا على قرارات إعدام
واغتيال كان من المفترض أن تنفذ في طالبيين لكنها توقفت "لأننا لا نقتل
الطالبيين".
في المقابل يؤكد جلال طالباني أنه لم يكن أي عداوة أو
حقد تجاه صدام حسين، ويحكي موقفا حدث بعد سقوط نظامه في 2003: "جاءني عز
الدين المجيد، ابن عم صدام، وقال لي إن عائلة صدام حسين تعيش بصورة مزرية ووضعهم
سيء للغاية، فقلت له اذهب وأخبر السيدة ساجدة بأن تأتي مع بناتها وكل أفراد
عائلتها وسأخصص لهم قصرا في منتجع دوكان، وأنا أتكفل استضافتهم وحمايتهم"،
لكن هذا لم يحدث إذ وجدت الأسرة طريقها إلى الخارج.
ويقدم طالباني شهادة عن صدام حسين في مختلف مراحل
لقاءاتهما ربما تلخص لنا الحاكم العربي المثير للجدل وصاحب النهاية المأساوية:
"قبل أن يأتي إلى الحكم كان يبدو شابا ذكيا ومتفهما للوضع العراقي... وكان
يتحدث عن حكم ائتلاف وطني وبرلماني ومنح الأكراد حقوقهم بما فيها الحكم الذاتي،
وعندما استولوا على الحكم بقي على نفس أفكاره وأبدى ميولا يسارية حيث دافع عن
الشيوعيين وأطلق سراحهم وأعادهم إلى وظائفهم، وكان يدعو إلى مصالحة بين الحزبين
الشيوعي والبعث، وكان يرى أن القضية الكردية لا تحل بالسلاح وإنما بمنحهم حقوقهم".
ويواصل جلال طالباني متحدثا عن صدام: "كانت آراؤه
تقدمية، ولهذا كان الكثير يعلق عليه الآمال باعتباره عنصرا يساريا تقدميا داخل حزب
البعث، ولأنه لم يكن عسكريا، فإنه كان يمكن أن يبعد العسكرتارية عن الحكم ويمنع
الديكتاتورية، وعلى المستوى الخارجي كانت علاقاته جيدة مع الاتحاد السوفييتي ويدعم
الأحزاب اليسارية والاشتراكية في العالم".
ويختم: "كان كشاب يبدو كنجم سياسي صاعد، تقدمي
ومتمدن، يتحدث عن حقوق الأكراد، وكان قد عيّن في مكتبه شيوعيا سابقا وكرديا
وشيعيا، واستمر هكذا حتى عام 1974، إذ بدأ يتغير باتجاه اليمين والتشدد ومقاتلة
الشعب الكردي".