السبت 28 ديسمبر 2024 الموافق 27 جمادى الثانية 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
مقالات

قراءة نقدية لما دار في اجتماع د. مصطفى مدبولي مع رجال الأعمال

د.محمد فؤاد يكتب: اقتصاد مصر.. بين الحكومة ومجتمع الأعمال

الرئيس نيوز

تابعت النقاشات التي تضمنها لقاء رئيس الحكومة د. مصطفى مدبولي مع عدد من كبار المستثمرين ورجال الأعمال، للاستماع إلى رؤيتهم في شأن إصلاح الاقتصاد المصري، ورغم موقفي غير المحبذ لفكرة المؤتمرات الاقتصادية المفتوحة التي تتم دون تجهيز وفي الغالب لا تخرج بشيء،  إلا أنه قد استوقفتني نقطة رئيسية تم طرحها.

تحديدا أتحدث عن مداخلة رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى، عندما تناول تأثير سعر الفائدة على التشغيل مقترحا تشكيل لجنة لدراسة هذا التأثير وآلية التعامل معه، وبصرف النظر عن كون أغلب الحاضرين من أصحاب المصلحة في مضمون المقترح الذي يحمل ضمنا تخفيض سعر الفائدة، إلا أن إشكالتي هنا ليست مع المقترح ذاته إنما في فكرة عدم وجوده من أصله.

خاصة وأن عدم وجود مثل هذا التنسيق والدراسة لأبعاد السياسات الاقتصادية، يشير بوضوح إلى غياب فكرة الإدارة الاقتصادية للدولة والتي من الطبيعي أن تكون مبنية على مؤشرات أداء تستطيع أن توازن ما بين التضخم والركود الاقتصادي على سبيل المثال، وهو ما يكشف عن فجوة واضحة بين المتبع في مصر ونظيره المستقر عالميًا.

مثلا في الولايات المتحدة.. عند إتخاذ أي قرارات تخص التضخم يكون التساؤل الأول عن آليات الموازنة بين محاربة هذا الوحش والحفاظ على وتيرة نمو الاقتصاد أو الصراع الشهير بين فكرتي الـ hard landing والـ soft landing وهي أمور تكشف عنها مؤشرات واضحة يتم قياسها بدقة وتعتبر محدد أساسي في إتخاذ القرار، وهناك جهات بعينها مسئولة عنها، لكن في مصر يبدو أن غياب الوضوح حول المسؤولية عن الملف الاقتصادي، سواء في مستوى اتخاذ القرار أو في تقديم البيانات الشفافة، يعمق من صعوبة التعامل مع الأزمات ويؤدي إلى ارتباك في إدارة الأولويات.

فالخطاب الاقتصادي في الدولة يغلب عليه الارتجال ومسايرة الأمور يوما بيوم أو التركيز على حلول قصيرة المدى، دون أهداف مركزية للسياسات المتبعة تُمكن من التعامل مع هذه القضايا كملفات مترابطة تستدعي رؤية شاملة وتخطيطًا دقيقًا، وهو ما يفسد أي قرارات لمواجهة مثل تلك الإشكاليات ويخرجها عن أهدافها في أحيان كثيرة، أو يحدث اختلالات نتيجة عدم الموازنة بين تبعاتها.

وفي الواقع فإنه من المفترض ‏أن يدير هذا الملف "التضخم وسعر الفائدة ونمو الاقتصاد" كلا من البنك المركزي مع ووزارة التخطيط -للوزيرة دراسات عظيمة في هذا الشأن-، وأن تكون أي سياسات أو قرارات متبعة مشفوعة بمؤشرات مستمرة عن مدى نجاح السياسة النقدية في محاربة التضخم والتأثير المتوقع على الأسواق ونمو الاقتصاد، لكن يبدو أن المشكلة تكمن في عدم إعارة هذا التنسيق الاهتمام الكافي.. فوزارة التخطيط لا تتحدث في هذا الملف من أصله، أما البنك المركزي فيكتفي ببيان لجنة السياسات الجاف من ناحية البيانات.

وفي تقديري، فإن انشغال الحكومة بالمشروعات وباعتبارها أضخم صانع وأكبر مديون داخل الدولة يبحث دائما عن آليات لسداد ديونه وفوائدها، قد أفقدها التركيز في صياغة خطاب مؤسسي لمجتمع الاعمال يمكن من خلاله إعلان رؤية واضحة عن سياسة مكافحة التضخم التي تهم المواطنين في المقام الأول، والتي تفترض رفع معدل الفائدة وهو الأمر الذي يضر مصالح رجال الأعمال.

وعليه، فاللجنة التي طالب بها هشام طلعت لدراسة اثر الفائدة على مجتمع الاعمال، تعد من الأمور المستقرة في إدارة الاقتصاد ومن غير المتصور عدم وجودها أو أن تكون الدولة في مرحلة المطالبة بها، ومن خلال هذا التنسيق تتم الموازنة بين المصالح العامة في انخفاض التضخم، والمصلحة الخاصة في سعي الشركات للتمويل الميسر بأسعار فائدة مخفضة، خاصة وأنه لا يوجد تشديد نقدي سوف يلقى ترحاب مجتمع الأعمال وفي نفس الوقت ليس هدف التشديد النقدي أن يفضي إلى ركود.

و هنا بيت القصيد فقد طرح هشام طلعت تساؤلا يبدو وجيها: "هو رجال الاعمال هي السبب في التضخم؟" في اشارة واضحة لأن الانفاق الحكومي هو السبب الرئيسي في التضخم. لكنه اغفل ان مبدأ كبح الطلب الكلي ايا كان سببه: حكومة، استهلاك او استثمار يخضع لاليات نقدية محدودة يجب ان يتم تحليلها وادارتها. فتصبح هذة الاليات بمثابة الدواء الذي يجب ان يتبعه تحليل لأثر مفعوله وهي الحلقة المفقودة.

رسم بياني: آليات السياسة النقدية

فمسألة تحليل أثر آلية انتقال السياسات النقدية "Transmission Mechanism، يجب تناولها من خلال رؤية شاملة تستند إلى عدة محاور مترابطة، بما يحقق التوجيه الأمثل للسوق (Market Guidance)، مع مراعاة أن آلية انتقال السياسات الاقتصادية تعمل بشكل أفضل عندما تكون مدعومة بمؤسسات محددة وذات كفاءة عالية، قادرة على إدارة التوقعات الاقتصادية (Sentiment Management)، بدلا من فكرة تشتت المسؤولية المعهودة في إدارة الحكومة للملف الاقتصادي.

وهذه المؤسسات حتما يجب أن تعمل وفق معايير قياس أداء (KPIs) محددة تُسهم في تحقيق استقرار السوق وإدارة الأزمات، مع الحفاظ على الثقة بين الجهات الفاعلة في الاقتصاد "الحكومة باعتبارها المنظم ومجتمع الأعمال"، خاصة وأن الوضوح في هذا الامر يحقق ما يسمى التوجيه السوقي بما يحدد الاتجاهات الاقتصادية ويعمل على تعزيز ثقة المستثمرين.

كذلك إصدار تقارير منتظمة حول النمو الاقتصادي، والتضخم، وأسعار الصرف، من شأنه ان يساعد في وضوح الرؤية للأطراف الاقتصادية ومنها الاستثمار الأجنبي، خاصة وأن ذلك يساعد على تقديم رؤى مستقبلية واضحة (Outlook)، تساهم في تعزيز الاستقرار، وبالأخص إن ارتبط هذا التوجه بأدوات تقييم الأداء (KPIs)، لقياس نجاح الآلية من خلال مؤشرات معنية بتأثير السياسة النقدية على معدل التضخم أو مستويات الثقة في الاقتصاد ومرونته أمام الصدمات الخارجية على سبيل المثال.

وتنظيم مسألة التنسيق المؤسسي في إدارة السياسات الاقتصادية، يفترض فيها وضوح المسؤول عنها بحيث تكون مهمته إدارة المؤشرات الخاصة بالسياسات الاقتصادية ومتابعة أدوات تقييم الأداء ومدى التناغم بين السياسة النقدية والمالية في تنفيذ الأهداف التي تكون معلنة بشكل مسبق وتراعي خلق حالة من التوازن بين السوق والمؤسسات.

ملخص القول، أن هناك بديهيات في إدارة الحكومات خاصة في الملف الاقتصادي قد استقرت عبر الزمن وأصبحت أقرب للثوابت التي صقلتها قرون من التجارب، ويفترض فيها التطبيق حتما، ومن ذلك -بجانب دراسة أثر آلية انتقال السياسات النقدية - ضرورة وضوح هوية الاقتصاد المصري وهي مسألة غاية في الأهمية سبق أن تحدث عنها المصرفي الكبير هشام عز العرب من خلال تساؤل يبدو بسيطا لكنه أكثر عمقا من أي حلول لوذعية وهو: "ما هي هوية مصر الاقتصادية؟".

فالموضوع ببساطة، أن الحكومة لا تتبع كلاسكيات الإدارة المستقرة وأيضا لا تتبع هوية وتوجه اقتصادي محدد بالأساس، لذا ينتهي الحال لتسطيح الوضع الاقتصادي بمعاملته على أنه "مشكلة" ويصل الموقف للمثل الشهير: إن لم تعرف أين تذهب فجميع الطرق تنتهى إلى لاشىء.