الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

من لومومبا إلى ديبي.. تاريخ الطمع الأوروبي في القارة السمراء

الزعيم الكونغولي
الزعيم الكونغولي "باتريس لومومبا"

تظل القارة السمراء محل أطماع الدول الكبرى، نظرًا لما تمتلكه من خيرات وثروات غزيرة، جعلتها محط أنظار الدول الإمبريالية التي استعمرتها ما بين بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، إيطاليا، إسبانيا، والبرتغال لسنوات طويلة، حرمتها من التعمير والتنوير والحياة الآمنة.


(الرئيس التشادي إدريس ديبي)

في الحرب العالمية الثانية بدأت الهوية الإفريقية، تدب في قلوب شبابها عبر الشاعر والسياسي السنغالي "ليوبولد سنجور"، مفجر القومية الإفريقية بفلسفة "الزنوجة" التي جلبت على مدار عقدين من الزمان الاستقلال الإفريقي من الاستعمار الأوروبي عبر زعامات كبيرة.


(نعش الرئيس التشادي إدريس ديبي)

لم تنل إفريقيا الاستقلال التام، لتدخل القوى الإمبريالية في صميم شئونها رغم وجود زعامات وطنية، تحكم الأراضي السمراء، وذلك خوفًا من خروج المارد الإفريقي بزئيره الهادر لمحو الأسطورة الأوروبية الاستعمارية الزائفة نهائيًا.


(الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا)

تناثر هذا الدليل بشكل ملموس وقت مقتل الرئيس التشادي "إدريس ديبي" منذ أيام قليلة، نتيجةً لخطواته الوطنية في دحر الجماعة الداعشية السمراء "بوكو حرام" المهددة للأمن الوطني التشادي في حدودها مع دولتي نيجيريا والكاميرون، مصدرا الجماعة الإرهابية.


(لومومبا في حفل الاستقلال)

جاءت طلقات الرصاص من إحدى المروحيات المعارضة للرئيس التشادي، بمباركة إستخباراتية غربية مستمرة، لم تمل من التدخل والتطفل على الأراضي السمراء.


(لحظة القبض على لومومبا)

استعادت حادثة ديبي، ذكريات مريرة في الجعبة التاريخية لإفريقيا منذ أكثر من نصف قرن تحديدًا في العام 1961 الذي شهد مقتل الزعيم الشاب، وثائر الكونغو كينشاسا "باتريس لومومبا" على يد الاستعمار البلجيكي بالتعاون والتواطؤ مع قوات الأمم المتحدة.


(باتريس لومومبا)

ساهم لومومبا في إعلان استقلال الكونغو كينشاسا عن الاستعمار البلجيكي، عبر تكوينه أول حكومة وطنية مستقلة في يوم 23 يونيه من العام 1960.


(لومومبا في منصب رئيس الوزراء)

 في 30 يونيه من نفس العام حدثت أزمة سياسية بين بلجيكا والكونغو وسط حضور غفير من دول عديدة في تلك اللحظة الفارقة في التاريخ الكونغولي.


(الفريق سعد الدين الشاذلي)

حضر الحفل ملك بلجيكا "بودوان" ورئيس وزرائه وبعض الشخصيات الإفريقية والأوروبية في حفل الاستقلال، وقام رئيس الوزراء البلجيكي لإلقاء كلمته لكن لومومبا منعه لعدم وجود اسمه في قائمة المتكلمين، فامتعض الملك ورئيس الكونغو "جوزيف كازافوبو" من هذا التصرف.


(الزعيم جمال عبد الناصر يستقبل بولين أوبانجا لومومبا زوجة الفهد الكونغولي)

 قام ملك بلجيكا ردًا على هذا الموقف قائلاً : "إن بلجيكا ضحت بشبابها وأموالها الطائلة من أجل تعليم الشعب الكونغولي ورفع مستوى اقتصاده"، وحذر الوطنيين الكونغوليين بعدم اتخاذ إجراءات متسرعة أو غير مدروسة تؤدي إلى تدمير المدنية التي خلفها البلجيكيون لهم.


(موبوتو سيسيكو)

عقب هذا التصريح قام لومومبا في لحظتها قائلاً في خطاب أطلق عليه خطاب "الدموع والدم والنار"  : "أيها المناضلون من أجل الاستقلال وأنتم اليوم منتصرون، أتذكرون السخرية والعبودية التي فرضها علينا المستعمر؟ أتذكرون إهانتنا وصفعنا طويلاً لمجرد أننا زنوج في نظره؟ لقد استغلوا أرضنا، ونهبوا ثرواتنا، وكان ذلك بحجج قانونية. قانون وضعه الرجل الأبيض منحازًا انحيازًا كاملاً ضد الرجل الأسود لقد تعرضنا للرصاص والسجون وذلك لمجرد أننا نسعى للحفاظ على كرامتنا كبشر".


(وقت سقوط لومومبا)

تسببت هذه الكلمات المفحمة للحاضرين، بدوافع الغل والحقد والكراهية للمستعمر وأعوانه بالسعي لمحو الشاب الثائر من الوجود، وهو الساعي للخلود والبقاء في صفحات التاريخ.


(الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف)

تواطأ الاستعمار البلجيكي والرئيس الكونغولي الدمية في أيديهم مع الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة ضد الزعيم الشاب ، وذلك بسكب البنزين على النار بإحياء الخلافات القبائلية داخل الكونغو، عن طريق عملائها، الرئيس "جوزيف كازافوبو"، وزعيم إقليم كاتنغا "مويس كبنغا تشومبي"، فازدادت أعمال الشغب وتَمرَّد الجيش، وانهار الاقتصاد الكونغولي، وما زاد الطين بلة إعلان تشومبي انفصال إقليم كاتنغا الغني، ثم لحقه إقليم كاساي ليعلن الاتحاد مع كاتنغا، كل ذلك بتحريض بلجيكي.


(ألملك البلجيكي بودوان)

وضع لومومبا في موقف عصيب، جعله يستغيث بالأمم المتحدة عبر مخاطبته للأمين العام "همرشولد"، الذي أرسل له قوات مكونة من 200,000 جندي إلى الكونغو، لكن السيناريو الخفي فرض نفسه بتواطؤ هيئة إرساء السلام مع المستعمر البلجيكي لإضعاف موقف الزعيم الوطني.


(الأمين العام للأمم المتحدة داج همرشولد)

لجأ لومومبا إلى الاتحاد السوفيتي بزعامة "نيكيتا خروتشوف" على الرغم من عدم "شيوعية" الفهد الكونغولي، وأيده خروتشوف لاستغلال إفريقيا في تقوية الدب الروسي أمام النسر الأمريكي لكن سرعان ما تخلى الدب السوفيتي عن الفهد الصغير، لضعف القدرة السوفيتية في إفريقيا.


(الرئيس السوداني إبراهيم عبود)

رغم شرفية منصب رئيس الجمهورية، قام الرئيس الكونغولي " جوزيف كازافوبو" بإقالة "باتريس لومومبا" في يوليو من العام 1960 من منصبه، وتجريده من كل صلاحياته رغم إعتراض مجلس الشيوخ على هذا القرار، وحل محله حكومة مؤقتة موالية لبلجيكا برئاسة "جوزيف إليو".


(لومومبا على تيشرت بأقواله المأثورة)

وسط كل هذه الأشواك الصلبة، لم تتعاطف الدول المجاورة مع لومومبا وعلى رأسها السودان برئاسة "إبراهيم عبود"، والذي إشترط بتدخله تحت مظلة الأمم المتحدة، ولكن جاءت رياح المنظمة الحقوقية عكس ما أراد زعيم الوطن المجروح.


(تيشيرت عليه رموز القومية الإفريقية الكونغولي لومموبا والجنوب أفريقي ستيف بيكو والبوركيني توماس سنكارا)

تخلى رئيس أركان الجيش الكونغولي "موبوتو سيسيكو" عن لومومبا الذي كان له الفضل في ترقيته إعلاميًا وعسكريًا، كمساعد إعلامي للشئون الصحفية بمكتب لومومبا والذي أرسله لبلجيكا لتدعيمه مهنيًا، لكن كان لسيسيكو طموحًا لا حدود له، جعل المخابرات البلجيكية ترى فيه رجلها الأمين لأغراضها الذئبية.


(الوقوع في قبضة أعداء الوطن)

أدرك لومومبا أن الأمور خرجت عن السيطرة، فقام بتهريب أبناءه لمصر عبر خطة جهنمية وضعها "عبد العزيز اسحق" عضو الرابطة الإفريقية وصديق لومومبا بمساعدة الضابط المصري "سعد الدين الشاذلي"، الذي كان قائدًا للقوات المصرية العاملة المشاركة في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة واستقبلهم الزعيم جمال عبد الناصر، وخصص لهم مرتبًا شهريًا وامتيازات تشعرهم بأنهم في وطنهم الثاني.

لجأ لومومبا إلى شمال البلاد لمؤازرته من أنصاره، لكن محاولته فشلت بالقبض عليه هو واثنين من رفاقه هما : "جوزيف أوكيتو" نائب رئيس مجلس الشيوخ، و"موريس موبولو" وزير الإعلام، وتم نقلهم بالطائرة إلى إقليم كاتنغا في 16 يناير من العام 1961.

خرجت جموع غفيرة في ليوبولفيلد ( كينشاسا الآن)، العاصمة الكونغولية معترضةَ على ما آل إليه مصير الفهد الكونغولي، لكن رصاصات "سيسيكو" إستقبلتهم بلا رحمة تحت مرأى ومسمع من القوات الدولية، ليقع المئات ضحايا القتل والسحل والتعذيب بلا أدنى احترام لكرامة البشر.

في العاشرة مساءً من يوم 17 يناير من العام 1961، تم اقتياد لومومبا ورفيقيه إلى غابات كاتنغا، حفاة لا تغطيهم إلا ملابسهم الرثة، وعلى أضواء كشافات السيارات تم إسناد الرجال الثلاثة إلى الأشجار، وتم تفريغ عشرات طلقات الرصاص في أجساد أبناء الوطن المخلصين، ليسكت حلم لومومبا نحو وطن حر متقدم إلى الأبد.

تم دفن الزعامات الوطنية في مقابرهم بجانب الأشجار، إلا أنه لاحظ في اليوم التالي أحد الجنود أن يد أحد القتلى مرفوعة خارج قبرها، وبعد الحفر اكتشف أنها يد لومومبا التي تأبى إلا الحرية، فقاموا بإخراج الجثث وتقطيعها وإذابتها في حامض الكبريتيك.

نفذ مهمة إخفاء أيقونات الحرية، ضابط الشرطة البلجيكي "جيرارد سويفت"، وكان الحمض في شاحنة مملوكة لشركة تعدين بلجيكية. وقد اعترف سويت بذلك في لقاء تلفزيوني أُجري معه في العام 1999، وقال إنه احتفظ باثنين من أسنان لومومبا كـ «تذكار» لسنوات عدة، ثم تخلص منهما بإلقائهما في بحر الشمال.

 نجح المستعمر وأعوانه في إخفاء جسد الفهد الكونغولي الصغير، لكنهم لم يستطيعوا محو اسمه من ذاكرة التاريخ والإنسانية وذلك بوضع اسمه وصوره على التيشرتات كأيقونة أبدية للحرية، وقول "آلان دالاس" بأنه أخطر من كاسترو نفسه.

في أغسطس من نفس العام قام الرئيس جمال عبد الناصر، في قمة عدم الانحياز بيوغوسلافيا بإدانة مقتل لومومبا التي تخالف كافة المواثيق الدولة المرتبطة بحقوق الإنسان.