الجمعة 29 مارس 2024 الموافق 19 رمضان 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

"شكاوى الفلاح الفصيح".. تحفة شادي عبدالسلام في حب قدماء المصريين

الفنان أحمد مرعي
الفنان أحمد مرعي في "شكاوى الفلاح الفصيح"

في ظل الساعات القليلة القادمة، ينتظر الجميع تحرك موكب مومياوات ملوك الدولة الحديثة (الأسر 18، 19، 20) من المتحف المصري في التحرير إلى متحف الحضارة المصرية في الفسطاط، كخير شاهد على آثار هؤلاء الكبار في رسم ملامح الحضارة المصرية القديمة، التي تعلم العالم إلى الآن معاني الأخلاق والتحضر والرقي المعروضة بمتاحف العالم.


من النماذج الهامة كدليل توثيقي على رُقي المصري القديم، قصة "شكاوى الفلاح الفصيح" التي حدثت ما بين الأسرة التاسعة والعاشرة، التابعة للعصر الوسيط الأول (من الأسرة 7 حتى 10) والتي وقعت بمحافظة الفيوم في عصر الاضمحلال الأول، موضحةً أن في أوقات الشدة لا يذبل معدن المصري الأصيل لسطوع شمس الحضارة عليه دائمًا.


تدور قصة "الفلاح الفصيح" في سنة 2200 ق.م من خلال فلاح يُدعى "خن – أنوب"، في بلدة إهناسيا حيث تعرض للضرب والاعتداء من قِبل "تحوت ناخت" المشرف على ضيعة النبيل، "رينسي بن ميرو" بسبب اتهامه بإتلاف الزرع، وبأكل حماره زرع النبيل، فاعتدى على "خن – أنوب" وأخذ حماره وبضاعته.


ذهب الفلاح إلى النبيل "رينسي بن ميرو" بالقرب من ضفة النهر في المدينة، يشكوه مما حدث وأثنى عليه، وبث شكواه، فطالبه النبيل بأن يحضر شهود على صحة كلامه، إلا أن "خن-أنوب" لم يتمكن من ذلك، غير أن النبيل أعجب بفصاحة الفلاح، وعرض الأمر على الملك وأخبره ببلاغة الفلاح.


ظل الفلاح الفصيح يتوسل في شكاواه لمدة 9 أيام، طالبًا العدالة بعد أن استشعر التجاهل قائلاً :"أقم العدل أمدحك ويمدحك المادحون .. أزل معاناتي فقد ثقلت واحمني فقد ضعت"، أعجب ناظر الخاصة بالفلاح وأسرع به إلى الملك وقص عليه قصته فرد الملك عليه بقول "أستحلفك بحق ما تحب أن تراني فيه، أن تؤخره هاهنا ولا تعقب علي شئ يقوله، عساه أن يواصل الحديث، ثم يؤتي إلينا بحديثه مكتوبًا فنسمعه، بشرط أن تتكفل برزق زوجته وعياله، فالقروي من هؤلاء القرويين يأتينا عادة بعد إملاق وعليك أن تتكفل بمعاشه بشرط أن تصرف له رزقه دون أن تشعره بأنك أنت معطيه".


هاجم الفلاح النبيل هجومًا شديدًا، مما أدى إلى ضربه من قِبل الحراس ليرحل الفلاح مُحبطًا وتظل لعبة الرسم بالكلمات البليغة تنقش من أنامله الفصيحة حتى قام النبيل بمكافأة الفلاح بدلاً من معاقبته برد الحمار له، وبضاعته مع تجريد "توتي نخت" من أملاكه ووهبها للفلاح الفصيح.


هذه القصة العظيمة، لم تمر على عدسات السينما مرور الكرام، لثراء مغزاها الدرامي والقصصي حيث قام المخرج الكبير شادي عبد السلام، بإستحضار البردية وتحويلها من كلمات عتيقة إلى لقطات حية متحركة في العصر الحديث، مستنهضًا عراقتنا الأصيلة في أوقات الهزيمة والاستنزاف كي لا ييأس المصري في لحظات الإعداد للعبور المنتظر.


قام عبد السلام بعمل فيلم روائي قصير عام 1970 بعنوان "شكاوى الفلاح الفصيح" بطولة: أحمد مرعي، أحمد حجازي، أحمد عنان، مستثمرًا النجاح العالمي لفيلم "المومياء" بنسج خيوط الجذور القديمة لإستنهاض الشخصية الحديثة من عثرتها المعاصرة.


ساهم عبد السلام بتحفته القصيرة بإعادة الثقة المفقودة لقلب المصري في أعقاب هزيمة حرب الأيام الست، تزامنًا مع إعادة بناء الجيش في ملحمة الاستنزاف، وهو ما جعل الفيلم يُرحب به عالميًا من خلال البراعة الملحوظة في نقل ما جسد بالحفائر والجداريات على شريط السينما الفضي، من خلال ملامح مصرية صميمة لأبطال العمل العالمي.


(بردية شكاوى الفلاح الفصيح)

شارك الفيلم بمهرجان فينسيا في العام 1970، وحصل على الجائزة الكبرى لدقة النقل من الجدران إلى الصورة المتحركة بألوان منطقية في التعبير عن العصر القديم، وهو ما وثق لنا براعة المصري ورقيه في تعامل الحاكم مع الرعايا بمنتهى الحب والائتلاف.

تعد قصة "شكاوى الفلاح الفصيح"، أول رواية قصيرة على مستوى العالم لتوافر عناصر الحكي، والشخصيات، والأحداث، والبداية، والوسط، والنهاية والعقدة مع روعة الحبكة، كدليل مؤكد على ريادة المصري بإيجاد فن القصة بمختلف أشكالها، وذلك بحفظ البرديات الأربع ما بين متحفي برلين بألمانيا وليدن بهولندا.