«ميراث الغضب 4»..خطايا حافظ الأسد الإقليمية التي انفجرت تحت قدم بشار
في مارس من العام 2011 انفجرت الأزمة السورية، التي بدأت بثورة وانتهت بحرب أهلية لتقضي خلال ما يقرب من 7 سنوات على سوريا وما فيها، وسط اتهامات للزعيم الراحل حافظ الأسد بأنه زرع بذرة “ميراث الغضب”، الذي انفجر في وجه ابنه بشار.
طوال ما يقرب من 30 عاما، وقف الأسد الأب بين يدي التاريخ، تتأرجح رؤى الباحثين حوله ما بين إنصاف واتهام، بين ما يمكن وصفه بنجاحات سياسية وما يمكن اعتباره جرائم إنسانية ومجتمعية، ارتكبها في حق الكثير من أبناء أهل الشام.
هل دفع بشار الأسد ثمن جرائم والده، في البلد العربي الوحيد حتى الآن، ذات النظام الجمهوري، التي نقلت فكرة توريث الحكم من حيز التنظير إلى حيز التنفيذ دون أدنى شرعية؟، وهل ما تعانيه سوريا حاليا هو نتاج وتراكمات مرحلة حافظ الأسد واستمرار سياسية إملاء الوصاية على الشعب السوري؟.
يجيب على الأسئلة السابقة وغيرها الدكتور مصطفى عبدالعزيز مرسي سفير مصر في سوريا سابقا ومساعد وزير الخارجية الأسبق، في كتابه “حافظ الأسد.. بين الواقع والأسطورة”، الصادر مؤخرا عن “الدار الدولية للاستثمارات الثقافية”، والذي يتناول فيه شخصيته وعصره وكيف تعامل مع شعبه ودول الجوار.
في الحلقة الرابعة والأخيرة من عرض الكتاب يتناول الكاتب موقف حافظ الأسد من السلام مع إسرائيل وما فعله الرئيس محمد أنور السادات بالدخول في مفاوضات انتهت بتوقيع كامب ديفيد، فضلا عن علاقاته بدول الجوار تركيا ولبنان والأردن.
احتلت إسرائيل 1250 كيلو متر مربع من مساحة هضبة الجولان السورية البالغة 1750 كيلو متر، واستعادت دمشق في حرب 1973 نحو 100 كيلو متر مربع، ما يعني أن هناك 1150 كيلو متر مربع مازالت تحت الإحتلال.
وتعتبر الجولان أهم خزان للمياه في المنطقة واصطدمت المفاوضات حولهت بخط أحمر إسرائيلي، وهو أن في مقدمة أثمان السلام المأمول، يتم تقنين استمرار انتفاع تل أبيب بمياه الجولان وبحيرة طبرية التي تزود دولة الاحتلال بنحو 40% من احتياجاتها المائية.
كانت حرب أكتوبر 73 بمثابة بيان عملي على توحد العرب وإدراكهم أن مصيرهم مشترك.
وقال وزير الخارجية الأسبق إسماعيل صدقي عن اتحاد القاهرة ودمشق وقتها ” كان استعداد الرئيس الأسد للعمل مع الرئيس السادات في الإعداد للحرب يدل على الوحدة الجوهرية للمصالح و الأهداف بين مصر وسوريا، وكان التخطيط المشترك ناجحا تماما، فضلا عن المحافظة على السرية التامة، وكان هذا نجاحا ساحقا حقيقيا في العالم العربي، وقد كان أداء الجيش السوري في أول الأمر جيدا جدا ما أظهر أن قدراته على مستوى التدريب و المعدات قد تحسنت كثيرا منذ الحروب السابقة، ولكن لم يتلق الجيش السوري مساعدة كافية لمواجهة الهجوم الإسرائيلي الضخم، وفي الحقيقة فقد أرسلت الأردن والعراق بعض المساعدة إلا أنها لم تكن كافية، ولم يكن بمقدور مصر أن تفعل كثيرا لتخفيف الضغط عن سوريا بعد عبور القناة، في البداية لم تستطع القوات المسلحة المصرية أن تتقدم بسرعة تجاه الممرات، دون أن تفقد حماية الصواريخ على ضفة القناة فتصبح معرضة لهجمات الطيران الإسرائيلي”.
وكشف إسماعيل بداية زعزعة الثقة بين الجانبين فيقول “ويبدو أن الرئيس الأسد تنبأ بقتال صعب ستخوضه سوريا، و أعد خططه السياسية بناء على هذا، فحتى قبل أن يبدأ الهجوم طلب من الاتحاد السوفيتي أن يقترح وقف إطلاق النار رسميا، حال أن تبدأ الحرب، وكانت المشكلة أن الأسد لم يبلغ السادات أبدا بأنه قدم الطلب، كما نفى ما حدث حين أخبرنا السوفيت بالأمر، وقد كانت لهذه المسألة تأثيرات كبيرة على الجهود التي بذلت لضمان وقف إطلاق النار، وخلقت مشكلات بين بريجنيف والسادات”.
وقد حدثت خلافات كبيرة في وجهات النظر بين الأسد والسادات حول الذهاب إلى مؤتمر السلام، وأطلق الرئيس السوري تصريحات عنيفة تؤكد تمسك سوريا برفض المؤتمر قبل الانسحاب الكامل.
ويضيف إسماعيل فهمي أنه عقب توقيع اتفاق فك الاشتباك الأول بين مصر وإسرائيل يوم 28 يناير 74 بدأت دمشق حملة للإساءة إلى مصر، وقد اشترك الرئيس الأسد في هذه الحملة بصفة شخصية، غير أن الدور الأكبر فيها لعبه وزير خارجيته عبد الحليم خدام، حيث اتهم الأسد وخدام مصر بأنها خانت القضية العربية بصفة عامة و خانت شريكتها الوحيدة في حرب أكتوبر ضد إسرائيل بصفة خاصة”.
وطبقا لرواية محمد حسنين هيكل فإن دمشق فوجئت بمشروع القاهرة للسلام الذي طرحه الرئيس السادات أمام مجلس الشعب في خطابه يوم 16 أكتوبر 1973. وبعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل أدركت القيادة السورية أنه يجب إعادة ترتيب حساباتها السياسية في المنطقة من أجل تحقيق هدفيها الأساسيين، وهما استعادة الجولان وضمان حق تقرير المصير للفلسطينيين.
وتحركت سوريا في عدة اتجاهات، أولها قيادة جبهة الصمود والتصدي لمنع أي سلام منفصل آخر بين إسرائيل ولبنان أو الأردن وفلسطين، وثانيها توسيع جبهة التشجيع المادي والمعنوي لسوريا لتضم السعودية وباقي دول الخليج، وثالثها السعي للتوصل إلى حالة من تعادل القوى مع تل أبيب، عن طريق الإبقاء على قدر من القوة العسكرية والنفوذ السياسي بالتحالف مع إيران، وبالتالي المشاركة في دعم حزب الله اللبناني، ليستوعب جانبا من فائض القوة الإسرائيلية عبر إدارة حرب بالوكالة وتجنب إشعال الجبهة الإسرائيلية السورية.
وبعد فترة من الوقت وتغير الظروف وجد حافظ الأسد نفسه مضطرا لاختيار السلام، فيقول وزير الخارجية السوري فاروق الشرع “أصبح لسوريا ما يبرر لها اتخاذ السلام خيار استراتيجي، فالاتحاد السوفيتي انهار، ولا ظهيرا مصريا أو عربيا منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد، ولا عمقا استراتيجيا مع العراق منذ انهيار الميثاق القومي وما أعقبه من حروب عبثية مع إيران والكويت، ولا أثرا يذكر لإعلان دمشق، بعد أن ألغي الشق الأمني منه بطلب ملكي”.
وبدأت سوريا تفكر جديا في استكشاف في مسار التفاوض مع إسرائيل بعد مرور أكثر من 20 عاما على كامب ديفيد، ومما حفز الرئيس حافظ الأسد على تقبل التفاوض مع إسرائيل شعوره بضعف صحته، فضلا عن مروره بمأساة وفاة ابنه الأكبر باسل الأسد، فلم يكن عنصر الوقت في صالحه، خاصة بعدما أيقن أنه لا يستطيع دخول حرب لتحرير أرضه المحتلة.
لكن عملية السلام التي كان ينشدها الأسد تعثرت قبل أن تبدأ بسبب الخلاف بينه وبين إسرائيل حول مفهوم الإنسحاب من الجولان فالرئيس السوري طالب بانسحاب كامل من أراضيه على غرار ما حدث في سيناء، وهو ما رفضته إسرائيل بطرح فكرة الإنسحاب الجزئي، لأن ما قدمته في المعاهدة مع مصر لا يمكن أن تقدمه مرة أخرى.
وبالتالي فإن خطايا الأسد أبقت على جزء من سوريا تحت الاحتلال حتى الآن، وكان ذلك أحد أسباب اندلاع الثورة التى انقلب إلى حرب أهلية ضد بشار، فالعائلة التي حكمت لأكثر من 40 عاما لم تتحرك لتحرير البلاد.
وفي آخر أيامه كان الأسد ينشغل بهمين رئيسيين، أولهم تسهيل توريث الحكم لنجله بشار دون اضطرابات، والوصول إلى تسوية تحفظ ماء وجه الرجل الذي رفض كامب ديفيد واتهم مصر بخيانة العرب، فلا يعقل أن يأتي بعد 20 عاما ويقبل بامتيازات أقل من التي وردت فيها.
ووفقا للكتاب فقد ارتكب الأسد خطايا كبرى مع دول الجوار، ما أرهق نظامه وسوريا بشكل كامل، وأكبر هذه الخطايا ما فعله مع لبنان، فقد تم استدراجه إلى الرمال المتحركة في هذا البلد المجاور، فغرق في متاهات الحرب الأهلية اللبنانية وبدد كثيرا من طاقات سوريا، وطال من وجودها العسكري والأمني والتدخل في الشئون الداخلية اللبنانية، ما كان يوصف وقتها بوضع لبنان تحت الوصاية السورية، ما شوه صورة سوريا وأفقد النظام تعاطفا كبيرا من الداخل اللبناني والمحيط الإقليمي.
وبدأت بعض القوى اللبنانية، لاسيما المارونية لا تكتفي بموقف المعارضة السلمية للوجود السوري، بل تزايد اعتمادها على ميليشياتها، واضطر الأسد لمواجهتها عسكريا، على نحو ما حدث مع ميشيل عون في 1990، وبطبيعة الحال استغلت إسرائيل هذا الوضع المرهق لسوريا في تغيير اوضاع الجولان المحتلة.
ومن بين المشكلات التى ورثها حافظ الأسد لنجله بشار وساهمت في تعقيد الأزمة التى نشبت في 2011، توتر العلاقات مع تركيا.
ويقول الكاتب حاول الأسد تجنب الكثير من احتمالات الصدام مع تركيا، فقد كانت السياسات الإقليمية للبلدين تتعارض في أكثر من جانب، لا سيما تلك المتعلقة بالتحالف التركي الإسرائيلي، وموضوع مياه الفرات، فلم يتمكن النظام السوري من إيجاد صيغة وفاقية مع تركيا أو الوقوف ضدها، وظلت أنقرة في حالة عداء مستمر مع دمشق.
وفي عام 1998 أنقذت مصر سوريا من ضربة عسكرية محتملة كانت تركيا تريد توجيهها لتأديب الأسد على دعمه لحزب العمال الكردستاني، كوسيلة ضغط على النظام التركي الذي يتعنت في حل مشكلة نهر الفرات.
وفي النهاية يقول الكاتب إن “سياسات حافظ الأسد الإقليمية كانت تمثل تحديا للسياسات التي كانت سائدة في إقليمه، كما فرضت عليه تحديات وجد نفسه مضطرا لمواجهتها، وقد مرت سوريا في عهده بتحولات وتطورات بالغة العنف، كان أهمها وأصعبها ما يحدث على المستوي الداخلي، حيث حملت سياساته الداخلية والخارجية الشعب السوري بأعباء وتضحيات جسام، وغالبا ما تأتي الاستفاقة بعد فوات الأوان”، وهكذا يدفع بشار وسوريا ككل ثمن 30 عاما من الاستبداد الداخلي والتخبط الخارجي، فضلا عن عدم أهلية بشار ذاته للحكم وعدم شرعية وصوله للسلطة كوريث في بلد جمهوري.