السبت 20 أبريل 2024 الموافق 11 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
أراء كتاب

د. حسام فاروق يكتب: العُلوج على الشاشات

الرئيس نيوز

تواجه مصر منذ 30 يونيه 2013م حرب دعائية ممنهجة و ممولة من دول بعينها و مدعومة لوجستيا و استخباراتيا من دول أخرى, لون مستحدث من الإعلام لم تشهده مصر فحسب بل الشرق الأوسط و المنطقة العربية بوجه عام, لكن ربما كان نصيب مصر هو الأكبر بحكم أنها الدولة التي ظلت متماسكة في ظل استمرار أزمات الصراع السياسي التي تعيشها المنطقة منذ عام 2011م, إعلام قائم على التضليل و قلب الحقائق و تزييف الواقع و صناعة الأكاذيب على أعلى مستوى من الحرفية و بأحدث التقنيات على أن تتكفل دولة معينة مثل قطر بكافة الفواتير و النفقات و الهدف واضح جدا وهو تقويض الاستقرار و نشر الفوضى أو باختصار هدم الدولة عبر مِنصات إعلامية دُشنت خِصيصا لهذا الغرض سواء في الدوحة أو لندن أو اسطنبول أو مِنصات قائمة بالفعل مثل قناة الجزيرة القطرية التي تبنت هذا النهج العدائي.

سأتحدث هنا عن جانب معين من الرسالة في هذا اللون من الإعلام وهو في تصوري الأكثر فجاجة و الذي يتنافى مع كل القيم و معايير الشرف الإعلامية بل و يتنافى مع الأخلاقيات العامة, وأقصد "الشتائم  السياسية" التي تم ترسيخها تدريجيا لتبدو كأنها أمر عادي ليس فيه من الأذى ما يخدش حياء المتلقي في مجتمعاتنا العربية, و الحقيقة أنها جريمة أخلاقية متكاملة الأركان, الأكثر خطورة في هذا الموضوع أننا أصبحنا أمام طبقة جديدة  من الجماهير تفضل هذا اللون من الإعلام وتعتبره حلقة من حلقات الصراع بين الأطراف السياسية، فعندما تغيب الحدود بين الاحتراف والهواية، و بين وجود المعايير الأخلاقية و غيابها  يصبح خطاب الكراهية وسيلة لجذب الجمهور إلى هذه النوع من الإعلام ، ما قد يجعل البعض ينجر إلى هذا الخطاب، وأحيانا يبحث عنه!.

الشتائم السياسية كانت ولازالت موجودة في الصراعات السياسية على كل مستوياتها و في كل العصور, لكنها كانت من تقاليد النخب السياسية و تنحصر في جوانب ضيقة عبر تصريحات طبقة الحكام أو الوزراء و المسئولين التنفيذيين والدبلوماسيين, حيث يوجد مبدأ المعاملة بالمثل, التراشق بتراشق و الخروج عن النص يقابله خروج مماثل، والشتائم السياسية ليست قاصرة على فترة زمنية بعينها، فهي موجودة منذ العصر الجاهلي حتى الآن  و مع كثرة الدول و تطور المجتمعات و انتشار المدنية عبر العصور  وظهور وسائل الاتصالات و تطورها, تطورت أيضا الشتائم السياسية لدرجة قد تصل إلى مستوى "خطاب الكراهية"؛ لكن ما يحدث اليوم أقسى من الماضي البعيد، وأكثر إيلاما لأن خطاب الشتائم المعاصر توفرت له كل شروط وأدوات الانتشار والوصول إلى عامة الناس مباشرة وانتقل من طبقة السياسيين إلى الإعلاميين و من ثم إلى الناس.

ربما كان أبرز مثال للشتائم السياسية في الإعلام خلال الربع الأخير من القرن العشرين مصطلح "العُلوج" الذي تداولته التليفزيونات العربية و أطلقه  محمد سعيد الصحّاف وزير إعلام العراق في عهد صدّام حسين والناطق الرسمي باسم حكومته، أثناء حرب الخليج الثانية وهو الشتيمة السياسية التي غلفتها خفة الظل ربما لحداثة المصطلح على الجمهور المصري كمثال  و " العُلوج" كلمة تعني في "لسان العرب" الرِجال الغِلاظ من كُفار العَجمْ. 

أدرك صنَّاع المخططات السياسية خطورة الإعلام و الدعاية السوداء في التوجيه والتضليل معاً، في ظل التطور التقني الرهيب في هذا المجال  ولذلك بدأوا يستخدمونه على طريقتهم في ظل هيمنة أفكار تصور باستمرار صراعات على غير حقيقتها، وتفتعل خلافات على غير مضمونها، و أنتجت المكايدة السياسية طبقة من الشَتَّامين تحت مسمى "إعلاميين" يتعاملون مع الإعلام على طريقة "النَدَّابة"، وهي المرأة التي كانت تستأجر للندب و العديد على الميت وهي وظيفة قديمة عرفتها المجتمعات العربية و هناك  نوع من الغناء الفلكلوري اسمه "العَدِيد" موجود في كتب التراث العربي.

لكن الفرق هنا بين الإعلامي الشتَّام  و "المعَدِدَة" في نوع الخطاب فبينما تنحصر بضاعة المعَدِدَة في النواح و العديد و ذكر محاسن الميت, يتداول أُجراء الإعلام العدائي بضاعة فاسدة  كالشتائم و السباب و الهمز و اللمز و الحركات و الإيماءات و ينهلون من قاموس عدائي ، بلغة دنيئة مُفرطة في المُغالاة ومُدانة بكل الاعتبارات مُستهدفين الأشخاص الكبير و الصغير و المؤسسات بلا ضابط ولا رابط ولا رادع وفي النهاية وصلنا إلى جو خانق يصاحبه حالة استقطاب سياسي حاد مشحون بالبذاءات و الخِطابات التحقيرية و الترويج لها عبر الشاشات و الفضاء الإلكتروني، وأصبح الناس شركاء فيها, كما يحدث على مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت للأسف لغة الشارع في أحيان كثيرة.

في مصر منذ  25 يناير 2011م وحتى الآن نلاحظ استعارة الشتائم السياسية من جديد في التفاعل السياسي حيث ظهر العديد من ألفاظ الشتائم  على لسان الأبواق المأجورة التي تُعتبر جزء من هذه المخططات الفاشلة لاستهداف مصر و التي تنطلق من الدوحة و اسطنبول و لندن، وهؤلاء الشتَّامون الذين يفسدون المعنى السياسي لأي خلاف يتصورون أنهم يقدمون إعلاما وإنما هم يفسدون الذوق العام في غفلة من كل مسئول في أي بلد تُبث منه هذه الشتائم .

إذا قمنا بمحاولة لتفسير أسباب هذه الظاهرة، فلابد أولا أن نعترف بأنها تأتي في سياق الحرب الممولة ضد مصر لنشر الفوضى فيها و في بعض الحروب كل الوسائل متاحة, مشروعة وغير مشروعة و من يدخل غِمار حرب "غير شريفة" كهذه لا يهمه أن ينتقى كلماته و هو يخاطب خصمه و بكل تأكيد ستحلو له الشتائم, في غيبة الرقيب, أما انتشار الظاهرة فيرجع إلى عدة عوامل، فمن ناحية زاد الإقبال على برامج "التوك شو" التي زاد عددها بشكل كبير على القنوات الفضائية  الشتامة  والتي أصبحت أيضا مجالا للتعبير وسب الخصوم السياسيين و يعاد تدوير ما يقدم بها  عبر الإعلام البديل أو ما يعرف بمواقع التواصل الاجتماعي, و من ناحية أخرى زاد الإقبال على مواقع التواصل الاجتماعي، و أصبحت تغريدات تويتر ومنشورات فيس بوك وفيديوهات اليوتيوب بدايات لهجمات على  الخصوم السياسيين، و تتميز هذه المنصات بسهولة استخدامها لأي فرد، خاصة أنها غير مراقبة ولا توجد سلطة عليا فيها، حتى ولو كانت مراقبة من الدولة، فيمكن التهرب من ذلك بسهولة، والأهم من هذا كله أنها وسيلة مجانية للتعبير.

السؤال: كيف يمكن تنقية الفضاء العربي من مثل هذا النوع من الإعلام الذي يتبنى الشتائم كنهج و أسلوب عمل؟ و كيف يمكن الحد من المخاطر المتزايدة للحرب الإعلامية الجديدة التي تتعرض إليها العديد من البلدان، ومنها مصر بهدف إلحاق إضرار ببنيانها الاجتماعي وباستقرارها السياسي ونموها الاقتصادي، وانتظام الحياة فيها؟ 

يفترض بأي خطاب إعلامي أن يكون، من حيث المبدأ منسجماً مع الثوابت الأخلاقية في المجتمع لا أن يسهم في خلط الأوراق بالدفاع عن الباطل وتبرير التعدي بكافة أنواعه ومصادره وتبادل الشتائم والتنابز بالألقاب!! تلك ليست مهمة الإعلام ولا رسالة الإعلاميين.

في تصوري أننا كعرب بحاجة إلى هيئة عليا على غرار المنظمات الإقليمية تكون لها السلطة في التعامل مع الإعلام تملك آلية العقاب و تضم في عضويتها كل الدول العربية و تعمل وفق منهج  يلتزم المعايير و الضوابط الأخلاقية و المهنية للإعلام للسيطرة على حالة الانفلات من الرقابة واستعصاء الترشيد في ظل السماوات المفتوحة وثورة الاتصال التي أنهت احتكار الدول للإعلام والمعلومة.

 نحتاج أن تكون ممارسة الحرية، في ظل الحدود التي يفرضها القانون، أو يرسمها العرف، و تخضع في النهاية للضبط الاجتماعي، إذ لا يعقل في جميع الأحوال أن تكون الحرية خروج عن القانون والأعراف، حيث تؤدي بهذه الصورة إلى الفوضى.. في فضاء غير محدد وغير محدود، يجب أن يكون السلوك مرهون بالبيئة والمواقف والثوابت والأولويات و قبل كل ذلك يكون محكوما بالقانون.