الجمعة 29 مارس 2024 الموافق 19 رمضان 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
أراء كتاب

د. حسام فاروق يكتب : صكْ مصطلحات

الرئيس نيوز

صك المصطلحات في الإعلام السياسي أحد الأدوات الهامة التي تستخدمها وسائل الإعلام لتسويق الأفكار و المعتقدات بطريقة انتقائية متحيزة تخدم سياسات و أهداف دول أو جهات بعينها, والمصطلح عبارة عن كلمة، أو جملة مركزة, يتم اختيارها بعناية فائقة، لتكون توصيفا أو مرادفا  لقضية أو حدث أو أشخاص بعينهم، في مكان و زمان محددين و خلق صورة نمطية يتم بها التأثير على الوعي الجمعي، و صناعة مفهوم يتوافق مع مصالح صانع المصطلح و مُسوِّقه .

الغاية من المصطلح عند تسييسه أن يسعى لتغيير قناعات ومواقف فئة ما, بتبنّي وترسيخ مفاهيم بعينها و غالبا ما يجري ربط المصطلح بواقعة ما، تجعل الإنسان يتذكر الواقعة أو الحدث كلما تكرر المصطلح في الإعلام , وهكذا تصبح كافة القضايا المتشابهة عبر الإعلام موضع مقاربة و ربط بالمصطلح لدى المتلقي.

 كما قد تشهد عملية صناعة المصطلحات السياسية إهمال خلفيات بعض الأحداث، و تشويه البعض الآخر؛ ممّا يُسهِم في جعل المتلقي غير قادر على وضع تصور منطقي للمقصود من المصطلح, وهذا أمر في غاية الخطورة، فالمستهدف بالتشويش هنا هو العقل البشري؛ للتشكيك في صحة القناعات والأفكاره، فيضطر المتلقي إلى تقبل فكرة كان يرفضها سابقاً و تتبدَّل مواقفه وأفكاره, و يعتمد الطرح الجاهز للمصطلح والذي يتوافق مع سياسة صنَّاع المصطلحات.

مع التطور الكبير في وسائل الإعلام  بفعل ما حققته تقنيات وتكنولوجيا الاتصال والتواصل ونقل المعلومات، أصبح للمصطلح تأثيراً بالغاً وبالقدر الذي تتقاطع فيه المصالح السياسية والاقتصادية والأمنية إقليمياً ودولياً، إزدادت أهمية المصطلحات المستخدمة في الإعلام باعتبارها واحدة من أدوات الحروب الدعائية, حيث أن بعض وسائل الإعلام تهدف من وراء المصطلحات إلى إنتاج منظومات فكرية يتم ترسيخها حتى تتحول إلى بديهيات ومسلمات في ذهن المتلقي، وتستخدم هذه المصطلحات لأغراض سياسية صريحة و يسير خلفها عدد كبير من وسائل الإعلام بقصد و بدون قصد.

وفي الحالة المصرية لا يمكننا على سبيل المثال غض الطرف عن لجوء بعض وسائل الإعلام الغربية سواء وكالات أنباء أو صحف أو قنوات فضائية لحرب المصطلحات في  تغطيها للشأن المصري بعد 30 يونيه 2013 ولا سيما في ملف الحرب على الإرهاب, في السياق نفسه لا يمكننا إغفال الدور الذي لعبته هذه الوسائل في تغذية العنف والإرهاب والتطرف, فثمة إشكاليات كثيرة في تناولها  لموضوع الإرهاب؛ أولها الاعتماد على معايير مزدوجة في تعريفها لمصطلح الإرهاب تكسبه في بعض الحالات قدر من الغموض والضبابية,  وخطورة هذه الإزدواجية  تكمن في الطريقة التي تصنف بها هذه الوسائل عملاً ما على أنه إرهابي أو دون ذلك، فإذا كان الحادث في بلادها ومُرتَكِبُه عربيا, فإنها تتعامل في إطار كونه حدثًا إرهابيًّا  دينيا ، أما لو كان الجاني غير عربي، فإنها تذهب، على الأرجح، باتجاه الحديث عن صحته العقلية.

و فيما يخص الحوادث الإرهابية في سيناء على سبيل المثال في الفترة من (2013 – 2018)  فهذه الوسائل بداية لا تستخدم معها مُصطلح الإرهاب ولا تصف حوادث تلك الفترة بالإرهابية و إنما تستخدم مصطلحات من عينة (مواجهة, معركة, نِزال ) بين الدولة و "متمردين" و هنا تحاول هذه الوسائل وضع الدولة "نِد" للإرهابيين الذين لا تستخدم معهم مصطلح الإرهابيين و إنما تُعطيهم وصف (مسلحين, متمردين , محاربين , متشددين, أصوليين, جهاديين) , ولا نعرف في أي سياق صحفي مهني يمكننا وصف قتل الأبرياء بالجهاد؟! 

كما تعمد هذه الوسائل عند تغطيتها للحوادث الإرهابية في بلادها إلى استخدام مصطلحات تخفف من حدة الكارثة ولا تتحدث كثيرا عن التفاصيل  لإعطاء الانطباع بأن الحال فيها أفضل من الدول الأخرى, في حين تستخدم أقسى المصطلحات للتهويل والتضخيم في قوة الإرهابيين عند تغطيتها مثلا للحوادث الإرهابية في منطقتنا العربية و في مصر على سبيل المثال في الفترة الزمنية التي سبق الإشارة إليها و تهتم أكثر بالتفاصيل الدقيقة  و تحقيق الإثارة بعرض المناظر والمشاهد المأساوية وتصوير الأضرار بشكل متكرر ومبالغ فيه، إضافةً إلى بث وجهات نظر الإرهابيين دون إتاحة الفرصة لتعريتها والرد عليها, و الحقيقة أن الهدف ليس الإثارة فحسب و لكن فتش عن السياسة وراء كل مصطلح يستخدم في التغطية الصحفية لا سيما في ملف الإرهاب تحديدا  .

الجدير بالذكر أنَّ وكالات الأنباء العالمية  و أخص هنا (البريطانية و الأمريكية) هي التي تحدد أجندة المصطلحات وأولويات الاستخدام لكل مصطلح بحسب ما يحلو لها وبحسب مفهومها للإرهاب وقيمها ومعتقداتها وسياستها التحريرية  وأيدولوجيتها، وقبل كل ذلك موقف بلادها من الإرهاب في الأماكن المتفرقة من العالم, فلا نبالغ إذا قلنا أن بعض الدول الكبرى وراء صنع الإرهاب في دول بعينها لتحقيق مصالح سياسية, و بمفهوم أدق بعض الدول الكبرى أدارت حربها على الإرهاب بطريقة "الإدارة بالأزمة" , كأن تصنع إرهابا في مكان ما لتقضي على إرهاب في مكان آخر أو لتقضي على المكان بمن فيه.  

ولعل أوضح مثال في هذا السياق مثلا إصرار بعض وكالات الأنباء على إستخدام مصطلح تنظيم الدولة الإسلامية عند وصفها للعصابات الإرهابية المسماه ب "داعش" و هنا تريد هذه الوسائل ترسيخ هذا المصطلح  مقدمة بذلك خدمة للإرهاب و الإرهابيين,  فمجموعة عصابات صارت تنظيما و صارت دولة و صارت إسلامية بمنتهى  السهولة!! وبذلك تُعد هذه الوسائل  الطريق الأمثل لحصول الإرهابين على الاعتراف والشرعية الجماهيرية ,ليس ذلك فقط بل الأهم هو اللغة التي تعالج بها هذه الوسائل قضايا الإرهاب والمنظمات الإرهابية؛ كونها ترسم معالم الخطاب السائد لدى الرأي العام, فالإرهابيون يفرضون في كثير من الأحوال لغتهم ومصطلحاتهم على هذه الوسائل بحيث تصبح مناسبة للاستخدام في حديث الناس وإذا ما استخدمت وسائل الإعلام مصطلحات الإرهابيين, فإنها تُسهم بتحويلها إلى مصطلحات  مقبولة  للتداول وللتعبير عن بعض الانشطة,  وهذا يُعد أخطر أساليب  الحرب النفسية المعصرة التي تتبعها الجماعات الإرهابية, أو ما يمكن أن نسميه  "حرب المصطلحات" بغية التأثير في الرأي العام، وخلق حالة من التكييف مع هذه المصطلحات.

ضبط المصطلحات من أهم  المعضلات في الإعلام الحديث ، لأن الضبط وسيلة أولية وهامة للتخاطب لاسيما بين المتخصصين , والحكمة تقتضي عند التعامل مع المصطلحات في الإعلام خاصة السياسية منها أن نتوقف عند الوسيلة الإعلامية التي تعتمد المصطلح و تروجه كثيرا وعلاقتها بالجمهور المستهدف بهذا المصطلح من ناحية و الصيغ التي تطرحها كتفسير للمصطلح  ومدى وضوحها أو تماهيها من ناحية أخرى, كما ينبغي علينا أيضا أن نتوقف عند الأسباب التي تجعل وسيلة إعلامية تعتمد استخدام بعض المصطلحات دون غيرها لتُجمِل أو لتُخَفِف من حدة أو لتُشَوِه أو لتُفَتِت أولتُشَيطِن من ظواهر بعينها, كما يجب أن نتوقف أيضا عند القائم بالاتصال نفسه و أقصد هنا الصحفي الذي يستخدم المصطلح من حيث التوجه و الانتماء الفكري والمهنية والخلفية الثقافية.

أخيرا: علينا أن نتوقف كثيرا عند خطورة المصطلحات في الإعلام السياسي فقد تكون خيط من خيوط مؤامرة ونحن بتقبلنا للمصطلح و ترديده بحسن نية نكون كمن ينسج خيوطاً مجاورة لهذا الخيط , ويبقى أن كُل الكلام في السياسة مقصود حتى الكلام الذي لم يكتب بعد.