حكايات المصريين مع الأوبئة (3): "موعظة الطاعون" تدفع قنصوة الغوري لإسقاط الضرائب
طوال تاريخها، عاشت مصر فترات مظلمة مع الأوبئة التي حلّت ضيفا ثقيلا على المصريين، فأشاعت الموت والذُعر وحصت الأوراح بشكل جنوني.
فيروس كورونا المستجد "كوفيد- 19" ليس التجربة الأولى لمصر مع الأوبئة إذن، إذ سبقه الكثير من الجوائح التي تحالفت معها عوامل تخلف كثيرة، جعلت الخسائر البشرية فادحة، الأمر الذي أخذ يخف تدريجيا بفعل التقدم البشري عموما والطبي على وجه الخصوص.
من تلك التجارب "القدرية" القاسية، نسرد عدة حكايات من أرشيف المصريين مع الأوبئة وكيف تجاوزوها لتنتصر الحياة في النهاية.
نعود بالزمن لنحو ستة قرون مضت، لنتوقف عند زمن المماليك الذي داهم فيه الطاعون البلاد لمرات عديدة، وسنعتمد هنا على ما كتبه الكاتب صلاح عيسى في كتابه "هوامش المقريزي.. المجموعة الثانية".
يروي "عيسى" أن مع قدوم شهر رمضان عام 903 هجرية الموافق 1497 ميلادية، كان وباء الطاعون قد استشرى في البلاد، وكان السلطان هو الملك الناصر أبو السعادات محمد بن الأشرف قايتباي، بينما الخليفة هو المستمسك بالله أبي الصبر العباسي.
يقول المؤلف: "كان الطاعون قد بدأ في رجب، وتزايد في شعبان ثم انفجر ليصبح كارثة لا تبقي ولا تذر في رمضان"، ثم يضيف: "لم يعاني المصريون فحسب خطر الموت وشر الطاعون ولكنهم عانوا أيضا شر المماليك وقسوة قلوبهم، إذ كانوا يخطفون القماش من الدكاكين والبضائع من الأسواق".
مع حلول شهر رمضان، كانت كل الوسائل التي اتخذت للوقاية قد فشلت تماما، خصوصا التدابير التي اتخذها المماليك متناسين صحة الشعب في تلك الفترة الكارثية، فشاع الوباء "حتى طال بمخالبه الوحشية الطبقة العليا المرفهة في المجتمع".
في تلك الظروف، بدأ الناس يعرفون الله ويعترفون بخطاياهم ويكفرون عن ذنوبهم، واعترف اللصوص والنهابون والقتلة بما ارتكبوا من معاصي.
يستكمل صلاح عيسى: "وخشى المماليك أن يقفوا بين يدي الله بذنوب لا تغسلها كل مياه المعمورة وارتفعت دعواتهم لله يعلنون توبتهم عن عذاب صبوه على شعب مسكين وهبهم أكثر مما يستحقون، ومنحوه الجوع والسجن وافتقاد الأمن".
لكن، في نهاية رمضان عندما انحسر الوباء، عاد المماليك لعاداتهم القديمة في ظلم الناس، ومن أمثلة ذلك يروي المؤلف تلك الواقعة: "وقع في يد السلطان مواطن اتهمه بتهمة تافهة فأمر بسلخ وجهه وهو حي، فسلخوه من رأسه إلى رقبته وأرخوا جلد رأسه ووجهه على صدره، وصار عظم رأسه ظاهرا، وطافوا به في القاهرة ثم علقوه على باب النصر واستمر معلقا إلى أن مات".
بعد سنوات قليلة، وفي عهد السلطان قنصوة الغوري، وفي شهر رمضان أيضا، كانت البلاد على موعد مع أزمة أخرى في نقص الوقود، إذ "عز الحطب وأخذ الناس يستعملون روث الحيوانات وقش الغيطان".
استمرت الأزمة واستفحلت خصوصا بسبب رمضان الذي تكثر فيه أعمال الطهي، لدرجة أن مطابخ الأمراء نفسها تعطلت.
في الشهور التالية كما يروي صلاح عيسى، زاد الطين بلة ظهور الطاعون مرة أخرى، "فتجمع على الناس الفقر والغلاء والجوع والطاعون".
وبعد فترة من الغضب الذي صبه الناس على السلطان قنصوة الغوري نفسه، فوجئ الناس بناظر الحسبة (وزير التموين) يعلن إلغاء عدد كبير من الضرائب، وخصوصا على الغلال.
لكن المفاجأة أن القرارات لم تكن للتخفيف عن الناس، إذ يختم المؤلف قائلا إن الغوري "رأى في المنام نجوما تتساقط من السماء، تبعها سقوط القمر، وفسر ذلك بأن النجوم هي العسكر الذي يموت بالطاعون، والقمر هو شخصه الكريم.. ودفعه هذا إلى إظهار أسباب العدل وإبطال المظالم".