حكايات المصريين مع الأوبئة (1): لماذا منع محمد علي النساء من "الولولة" على ضحايا الطاعون؟
- الوباء حصد أرواح 200 ألف.. القاهرة فقدت رُبع السكان.. و800 حالة وفاة يوميًا
- الباشا شبَّه عديد النساء بـ"صوت الحمار".. والسجن والنفي للصعيد عقوبة المخالِفات
طوال تاريخها، عاشت مصر فترات مظلمة مع الأوبئة التي حلّت ضيفا ثقيلا على المصريين، فأشاعت الموت والذُعر وحصت الأوراح بشكل جنوني.
فيروس كورونا المستجد "كوفيد- 19" ليس التجربة الأولى لمصر مع الأوبئة إذن، إذ سبقه الكثير من الجوائح التي تحالفت معها عوامل تخلف كثيرة، جعلت الخسائر البشرية فادحة، الأمر الذي أخذ يخف تدريجيا بفعل التقدم البشري عموما والطبي على وجه الخصوص.
من تلك التجارب "القدرية" القاسية، نسرد عدة حكايات من أرشيف المصريين مع الأوبئة وكيف تجاوزوها لتنتصر الحياة في النهاية.
نبدأ من النصف الأول من القرن التاسع عشر، وتحديدا عام 1835، عندما اجتاح الطاعون مصر ليحصد خلال شهور قليلة أرواح 200 ألف مصري، وهو رقم ضخم للغاية إذا علمنا أن تعداد سكان مصر آنذاك كان حوالي 4 ملايين شخص.
المؤرخ الدكتور خالد فهمي، أستاذ التاريخ الحديث، ضمن اهتماماته بالطب في دولة محمد علي، كشف لنا عن جانت لافت للانتباه في الإجراءات الوقائية للدولة آنذاك.
يشير "فهمي"، صاحب كتب "الجسد والحداثة.. الطب والقانون في مصر الحديثة"، إلى أن القاهرة وحدها فقدت ربع سكانها في تلك الجائحة، لدرجة أن الطاعون كان يخطف أوراح 700 إلى 800 شخص في يوم واحد، أثناء ذروة الوباء.
كان السواد يخيّم على مصر آنذاك، كل بيت تقريبا فقد شخصا أو أكثر من أصحابه، قرى كاملة أبيدت تقريبا، أما عن الجنازات فبدت مثل مسلسل طويل كئيب لا ينقطع.
في تلك الظروف، اتخذت السلطة إجراءات صحية سريعة، من بينها بالطبع فرض الحجر الصحي على الأماكن الموبوءة، والعزل على الأهالي المصابين.
لكن هناك إجراء لافت للنظر كشف عنه خالد فهمي من واقع وثيقة اطلع عليها من دار الوثائق القومية بتاريخ ٢٩ محرم ١٢٥٢ هـ / ١٦ مايو ١٨٣٦ م، إذ قرر الحاكم محمد علي منع "الندّابات" من النواح والصريخ والولولة على ضحايا الوباء.
يقول "فهمي": لم تكن الجنازات مناسبات رهيبة بقدر ما كانت مشاهد صاخبة يتخللها نواح الندابات والنائحات اللاتي كن يسرن خلف الجنازات ويصحن بكلمات اختيرت بعناية ومهارة لاستدرار الدموع والبكاء".
ويضيف أنه مع ازدياد معدلات الوفيات اليومية صدرت الأوامر بضرورة التصدي لهذه العادة. لماذا؟
يجيب أستاذ التاريخ الحديث: "شاعت نظرية طبية (آنذاك) كانت ترى أن الخوف والجزع يضعفان البنية، وبالتالي يجعلان الجسم أكثر عرضه للإصابة بالوباء. وبما أن تزايد معدلات الجنازات في اليوم الواحد كان يصيب الناس بالذعر، ونظرا لاستحالة منع الجنازات، فقد تقرر استهداف الندابات والعمل على منعهن من ممارسة مهنتهن".
نلاحظ هنا الإدراك المبكر من السلطات الصحية لفكرة "المناعة النفسية" التي نسمع عنها كثيرا هذه الأيام مع انتشار فيروس "كورونا"، بمعنى أن الحالة النفسية لها دور أساسي في الحفاظ على مناعة الشخص ضد الوباء.
لم يكن قرار منع الندابات شفويا، لكنه كان أمر عالي مكتوب من محمد علي لمسئولي الأمن والمحليات الذين كان عليهم تنفيذه، كلٌ في موقع مسئوليته.
نص القرار على "منع قلق الجيران الذين بجوار منزل المتوفي من الصريخ والأصوات الحاصلة من الحريمات المعددات أنواعا كصوت الحمار الكريه". لاحظ هنا استهجان القرار وسخريته من أصوات "عديد" النساء.
وكلف القرار مشايخ الحارات والأحياء بالتنبيه على الأهالي "فرداً فرداً بأنه من الآن وصاعدا إذا كان يصير استماع صوت وصريخ معددة بمنزل أحد المتوفين في أي حارة كانت فيصير إجرا [معاقبة] شيخ تلك الحارة بدون إهمال".
وواصل القرار: "وكذا تنبّه على من يلزم لعدم حصول أصوات وصريخ من أحد المعددات المذكورة من خلف الجنازات بالأسواق وغيره، وعدم سماع صوت كريه مثل ذلك كليا بمنازل المتوفين".
وتوعد القرار أي سيدة لا تصغي للأوامر أو تصدت لتنفيذها بضبطها وإرسالها إلى الديوان الخدوي، على أن يُحبسن في أول مرة في سجن أمام القلعة بالقاهرة، وإذا كررن الفعلة يُرسلن إلى الصعيد.
ويلفت "فهمي" إلى أنه رغم صدور الأوامر بشكل مباشر إلى شيوخ الحارات لتنفيذ القرار، فإن أطباء قصر العيني، التي كانت أول مدرسة للطب البشري آنذاك، ورجال الصحة العامة، هم من تصدوا للندابات، إذ "تعاون هؤلاء الخريجين الجدد مع أساتذتهم الأوربيين في صب جام غضبهم على الندابات وعلى حرفتهن القديمة".