محمد فؤاد يكتب: شطحة في زمن الكورونا
فرضت تبعات فيروس كورونا، العديد من الأعباء الاقتصادية على موازنة الدولة، وهذا أمر طبيعي تواجهه جميع دول العالم بلا استثناء، فعجلة الإنتاج قد صابها الصدأ إن لم تكن قد تعطلت بالفعل، وموارد الموازنة المعتادة تواجه العديد من السدود، وهناك الكثير من المصروفات الضرورية لتأهيل المنظومة الصحية وتوفير الأدوات الطبية لتحسين آليات مواجهة الفيروس وانتشاره، وغير ذلك الكثير.
وفي هذا الظرف العصيب، ظهرت العديد من المبادرات الطيبة التي تؤكد المعدن الأصيل للشعب المصري، فتارة تنتشر حملات التكفل بالأسر وتارة أخرى نلحظ تكالب على التبرع لصندوق تحيا مصر، ومؤخرا سارعت مؤسسات الدولة للتبرع بجزء من مخصصاتها المالية بهدف توفير أموال لمساندة الدولة في أزمتها.
أعلم أن هناك صدأً قد طال المعدن، وهو واضح إما بالحرص فقط على المصلحة الفردية وتجاهل المصلحة العامة أو تسريح العمالة وزيادة الأزمة على المواطنين والدولة، أو تخفيض الرواتب وتجاهل رجال الأعمال تحمل مسئولياتهم في خضم المعركة، أو كما شهدنا مؤخرا حالة الهبد التشريعي التي لا أجد توصيف غيره لمقترحات القوانين التي تم طرحها للمساعدة في تخطي الأزمة.
سارع الدكتور علي عبد العال، رئيس مجلس النواب، انطلاقا من دوره الوطني والإنساني أيضا، بدعوة النواب للتبرع بمكافأة المجلس لمدة 3 أشهر، لصالح صندوق تحيا مصر، وهو المعني بتوفير جزء من مصروفات إجراءات مواجهة الفيروس، وبالفعل أيد جميع النواب هذا المقترح.
وبالمتابعة يتضح أن ما قام به المجلس بدفع من قيادته، هو أكبر حجم تبرع على مستوى برلمانيات العالم، فعلى حد علمي الذي أظنه دقيق، فقد تبرع برلمان المغرب بقيمة شهر فقط من مرتبات أعضاؤه، وبرلمان كندا اتبرع بالزيادة السنوية وهي ٢.٥% من قيمة ميزانيته، وأعضاء برلمان نيجيريا وفروا مرتب شهرين، أما غانا فتم توفير نص الراتب الشهري لمدة ٣ شهور، وبلغاريا فبعض نوابها تبرعوا بثلث الراتب، ونفس الحال تقريبا في برلمان الهند الذي تبرع ب٣٠% من الراتب.
فبالبحث السريع، تتوافر لدينا إحصائية شبه مؤكدة، أن مجلس النواب المصري، كوّن أكبر حملة تبرع منظمة على مستوى البرلمانات في العالم لصالح الدولة ودعمها في إجراءاتها لمواجهة الفيروس، وكذلك الحال بالنسبة لما قرره رئيس الحكومة بشأن التبرع بـ20% من قيمة رواتب الوزراء لمدة 3 أشهر، كما تم في جامعة القاهرة وغير ذلك الكثير، ناهيك عن التبرعات الشخصية للأفراد والمؤسسات الخاصة.
للأمانة لم استغرب موقف الدكتور علي عبد العال، فلطالما عهدته يأخذ مواقف وتحركات أكثر مما يتحدث، فهو رجل قليل الكلام ويفضل الفعل واتخاذ المواقف التي تدل على وطنية جمّة مقرونة بمسئولية شديدة تجاه الوطن والشعب، دون أي اهتمام بالشو الإعلامي.
إلا أنه استوقفني ما طرحه رئيس حزب الوفد، وهو أيضا رئيس اللجنة التشريعية بمجلس النواب، بشأن تقدمه بمشروع قانون يلزم بالتبرع بنسبة من رواتب الموظفين سواء في القطاع الخاص أو الحكومي لصالح صندوق تحيا مصر.. فالمقترح غريبا للغاية موصوم بالنشاز التشريعي والدستوري.
فالجميع يعلم أن التبرع هو شيء اختياري لا تتوافر فيه الإلزامية على الإطلاق، فما بالك برجل يتولى منصب حساس للغاية وهو رئاسة اللجنة التشريعية في البرلمان، ولديه مسئولية مباشرة في مراجعة جميع القوانين التي تصدر عن المجلس، ناهيك عن كونه يعد من كبار رجال المحاماة في مصر، حيث أن أصل كلمة التبرع كما يفيد المعجم الرائد و المعجم الوسيط يأتي من "العطاء بغير سؤال"، و "الإعطاء بغير واجب دون انتظار المقابل"، وهناك تناقض تام بينها وبيع وفكرة فكرة الإلزام التي طرحها النائب.
أضع الرجل أمام مقال عظيم كتبه الدكتور زياد بهاء الدين، بعنوان الفارق بين التبرع والضريبة، لعله يقرأ ما بين سطور المقال، من أمور واضحة وضوح الشمس وأخرى تحتاج تدبر، وكلاهما يفند ما يطرحه رئيس اللجنة التشريعية، ناهيك عن تأكيد ضرره المباشر على الاقتصاد والمجتمع.
والأكثر صراحة في شأن الموقف من المقترح، هو ما تفضل به عدد من النواب تم استطلاع رأيهم في المقترح ومنهم طلعت خليل، وعاطف عبد الجواد، وغريب حسان، وأظن أن غالبية النواب إن تم استبيان موقفهم سوف يرفضون مقترحه على حجة من أنه ضد المنطق وضد الدستور وضد مصلحة المواطن.
لا أعلم ما سر هذه الشطحة التي طرحها الرجل، فهي تتنافى مع أي منطق قبل القانون والدستور، وإن كان أصدرها عن يقين ودراسة، فلا بد أن نعيد النظر في تقديرها لحجم مكانته التي نوليها إياه، خاصة وإن وضعنا في الاعتبار ما سبق وأن صرح بشأن إمكانية تكلف المواطن المصري 5 جنيهات فقط في قضاء أعباء يومه، وهو تصريح يحمل انعزال تام عن الواقع.
نحن الآن نمر بمرحلة حرجة للغاية، لا بد أن نعمل فيها على دعم المواطن و دعم الدولة ومساندتها حتى نعبر منها بسلام، ولكن ذلك لا يمكن أن يقترن بحالة الهبد، التي تؤذي أكثر مما تنفع وتقلل من قيمة ومكانة مطلقها.