أحمد الطنطاوي يكتب: 10 مشاهد من قلب الأزمة
بحكم المسؤولية الوظيفية، وعلى مدار الأيام الماضية، ومن مواقع متعددة كالمستشفيات والمصالح الحكومية والشوارع والأسواق والمحال العامة وفي المناسبات الاجتماعية، شاهدت بعيني أداء الجهات الإدارية المسؤولة عن تطبيق القرارت التي صدرت من السلطات المختصة لمواجهة أزمة وباء كورونا، والتي أضيف إليها منذ قليل قرارًا بفرض حظر التجول ليلًا لمدة أسبوعين، كما كنت شاهدًا كذلك على سلوك السادة المواطنين الذين أكرر مناشدتهم الالتزام بالقرارات الإدارية مع اتباع الإرشادات الصحية.. ومن جملة ما رأيت أتشارك مع حضراتكم بعض المشاهد:
١- تعمل الأطقم الطبية وجميع العاملين بالقطاع الصحي الآن تحت ظروف، وفي ظل إمكانيات، تستلزم أن يُظهر لهم المجتمع التقدير الشديد والاحترام الواجب، وأن نساعدهم في مهمتهم النبيلة من خلال تنفيذ الإرشادات والالتزام بالتعليمات، وألا نضغط عليهم بأكثر من اللازم، بحيث نؤجل جميعًا طلب الخدمات الصحية غير الملحة الآن لنوفر وقتهم وجهدهم للمهمة الأخطر، ومن الأهمية كذلك أن يصلهم في هذا الوقت بالذات أن أسلوب تعامل الدولة معهم، ودرجة تقديرهم أدبيًا وماديًا سوف ترتفع بشكل مستحق بعد انتهاء تلك الأزمة، وذلك في إطار خطة شاملة لإعادة ترتيب أولويات الدولة ، بحيث تكون الأولوية القصوى للصحة والتعليم وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، كأحد الدروس المستفادة من هذه الأزمة.
٢- أن هؤلاء الأبطال ليسوا وحدهم الآن على خط المواجهة وإنما يتشارك معهم كثيرون من أبناء الوطن على العديد من المستويات ومن المنتمين للكثير من الوزارات والهيئات، والواضح على أسلوب العمل هو الاجتهاد في ظل موقف جديد عليهم ولا يبدو أنه كانت هناك خطط محكمة وسيناريوهات معدة مسبقًا، وذلك رغم أن الأزمة لم تكن مفاجئة حيث ضربت قبل مصر دولًا عديدة، وبحسب تأكيدات المسؤولين فإن الجميع كان يتوقع وصولها إلينا، وقد رأينا بأنفسنا أساليب متنوعة اتبعتها الدول التي سبقتنا إلى الأزمة وكان بالإمكان الاستفادة بصورة أفضل من تجاربها الإيجابية والسلبية.
٣- المقولة التي انطلقت وما لبثت أن انتشرت إلى حد أنها سادت من أن "المصريين مستهترين" بسبب استمرارهم بالشارع، إنما تحتاج إلى مراجعة في ضوء أننا ١٠٠ مليون ولدي الناس احتياجات لا يمكنهم الاستغناء عنها، وأن الطبيعة البشرية للمصريين وغيرهم من شعوب العالم إنما تميل إذا خيرت ما بين التقييد والحرية إلى اختيار الأخيرة، وأنه عندما كان هناك قرارات حتى لو كانت ذات طبيعة قاسية على نفوسهم، مثل تعليق الصلوات في المساجد أو الكنائس، أو إغلاق المحال العامة التي تمثل مصدر أكل العيش لهم، أو غيرها من القرارت المحددة، فإنهم قد التزموا بها، وعلى ذلك يكون أفضل من توجيه الاتهامات لهم اتخاذ قرارات منطقية ومطالبتهم بتنفيذها، مثل إيقاف العمل بمصانع وشركات القطاع الخاص التي تنتج سلعًا يمكن الاستغناء عنها الآن، وتوفير معايير السلامة وأدوات الوقاية لمن يلزم استمرارهم لإنتاج السلع الأساسية الضرورية.
٤- انطلقت مبكرًا مطالبات عديدة بالتطبيق الفوري لحظر التجول الشامل على عموم البلاد، وهو الحظر الذي تم فرضه منذ قليل جزئيًا لساعات الليل ولمدة أسبوعين، إلا أن الذين طالبوا به بشكل كامل ومن البداية لم يتحدثوا مطلقًا عن الإجراءات الضرورية التي يجب أن ترتبط بهذا القرار الصعب في ظل خصوصية الحالة المصرية التي يعيش معها ثلث السكان تقريبًا تحت خط الفقر، ويعمل معظمهم في وظائف لدي القطاع الخاص ويمكن أن يفقدوها بسهولة، وأن نسبة كبيرة منهم تعيش كما يقال "يوم بيوم"، ولابد أن يرتبط قرار حظر التجول بتدابير فورية تضمن لهؤلاء توافر ضرورات الحياة، وصدق من قال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، والذين يقيسون على دول لديها قواعد بيانات واضحة وتحدث يوميًا بحيث تستطيع حكوماتها لحظيًا تصنيف المواطنين بحسب الاحتياج، كما أن لديها أنظمة ضمان اجتماعي تشكل مظلة حماية قوية لمن يحتاج لتقديم دعم دائم أو مؤقت، هؤلاء إنما يقدمون قياسًا خاطئًا، أو أن حرصهم على حياة الناس -والتي تقدم طبعًا علي أي اعتبارات أخري- قد أنساهم أن ما يعتقدون أنه الحل قد يكون كذلك، أو أنه قد يكون مزيدًا من التعقيد، وأن الأمر يتوقف على العديد من الإجراءات التي يجب أن تصاحب قرار حظر التجول.
٥- ظهور السوق السوداء واحتكار السلع والمبالغة الكبيرة في أسعارها تحتاج إلى مواجهة حقيقية ولا يجدي معها تحميل المسؤولية للحلقة الأضعف في السلسلة، وتكرار هذه الظاهرة السيئة في كل الأزمات بمعظم الدول إنما يؤكد على فشل التوجهات "النيولبرالية" والتي تتحدث عن ضرورة إبعاد الدولة بشكل كامل عن الاقتصاد وقيامها فقط بدور الحارس، وهي اتجاهات بات من المرجح أن يتم عليها مراجعات فكرية عميقة ضمن تغيرات أوسع ستشهدها ميادين السياسة والاقتصاد بل وحتى بنية النظام الدولي، وقد بدأ الحديث في الأوساط العلمية عن شكل "عالم ما بعد كورونا".
وكمثال كنت شاهدًا عليه، عندما قررت الدولة منع إقامة الأسواق لأسباب لها وجاهتها التي لا يمكن إنكارها، فإنه بالمقابل كانت هناك زاوية أخرى تنظر منها سيدة مسنة تعول أسرة كاملة وكل رأس مالها تضعه في بعض الأقفاص التي تبيع فيها أنواع محدده من الخضروات، إن هي تركتها دون بيع سوف تفسد وستخسر معها كل ما تملك، وهناك زاوية ثالثة للمواطن الذي يحتاج هو الآخر لهذه السلعة الضرورية ويلقي اللوم على السيدة المسكينة للمبالغة في السعر الذي تبيع به، والحقيقة أنها ورغم زيادة السعر التي تجعلها في نظر المشتري مستغلة، إلا أنها قد تكون عمليًا (لا نظريًا) تبيع بالخسارة، إذ أنها حتى تستطيع استعادة رأس مالها -نفس الكمية من الخضراوات- ربما تحتاج إلى أكثر من حصيلة البيع وبالسعر المبالغ فيه، والأمر نفسه ينطبق على نماذج عديدة عند نهاية السلسلة، وإذا كنا نطالب الدولة بالاستماع إلى كبار الصناع والتجار وتلبية مطالبهم العادلة باعتبار أنهم محركات قوية للاقتصاد، فإن ذلك لا يعني أن تصم الدولة آذانها عن القاعدة العريضة من المواطنين الأولى برعايتها ليس فقط لأسباب اجتماعية، رغم أنها مستحقة وكافية، ولكن أيضًا لأسباب اقتصادية كون بائعة الخضار حلقة ضرورية في سلسلة التجارة، والمشتري وغيره من عموم المواطنين هم المستهلكين الذين بدون توافر القوة الشرائية لديهم سيصاب الاقتصاد بالركود، وذلك وفقاً لنظرية العرض والطلب.
٦- الغياب شبه الكامل لأصحاب الشعارات الرنانة والأغاني الطنانة في المهرجانات ومواسم الانتخابات والاستفتاءات، والذين كان بمقدورهم في كل مناسبة أن يغرقوا البلد بطولها وعرضها بمظاهر الدعاية المتنوعة والكراتين ، ويصبح الحل أن تصدر لهم التوجيهات بمساعدة الفئات الأولي بالرعاية حتي تتجاوز هذه المحنة.
وفي مقابل هذا الغياب المخزي كان هناك حضور مشرف لأبناء وبنات البلد الذين قدموا الوجه الحقيقي للشعب المصري الشهم والكريم سواء من المصريين المقيمين ببلدهم أو في بلاد الغربة التي تتشارك الآن مواجهة هذا الوباء في مشهد عالمي يعكس المصير الإنساني المشترك، وهو الأمر الذي سيكون له ما بعده عند زوال هذه الغمة.
٧- كثيرًا ما كان الحل للمشكلات التي تواجه الناس في هذه الأوقات الصعبة هو فقط ظهور المسئول بينهم يستمع إليهم باحترام ويتفهم احتياجاتهم ويعتذر لهم إذا لم يكن بيده تقديم الحلول، فالمواطن المصري يستحق التقدير دائمًا على ما صبر وتحمل، والقائد الناجح هو الذي يتوسط فريقه خاصة في أوقات الأزمات والمحن بحيث يشد على أياديهم ويقدم لهم القدوة في ميدان العمل، فهذا أوقع في النفوس من كل الخطب في ميادين الكلام.
٨- من بين كل المصريين الذين يتشاركون الآن القلق بدرجات متفاوتة على أنفسهم وأحبائهم، هناك آلاف الأسر التي تعيش قلقًا مضاعفًا على أبنائهم المحبوسين احتياطيًا أو المسجونين المحكومين، في ظل مخاوف من تسلل الوباء إلى داخل السجون التي تعد بيئة مناسبة لانتشار الفيروس، لا قدر الله، وخلال الأيام الماضية سُئلت كثيرًا عن مضمون النداء الذي أطلقته باسم الإنسانية وعن الطلبات الخمسة التي جاءت فيه، وقد أكدت في كل النقاشات على احترامي لكل رأي مؤيد أو معارض لهذه الطلبات، وبصفة عامة لأي طرح يتعلق بقضية عامة متى كان تحت مظلة القانون، كما كررت الثناء علي خطوة الإفراج عن ١٥ من المحبوسين احتياطيًا منذ عدة أيام.. ويبقي الأمل في مراجعة شاملة لهذا الملف المعقد في ظل هذه الظروف الاستثنائية، وذلك علي قاعدة العدالة للجميع من منطلق القانون، والرحمة لمن يستحق من منطلق الإنسانية.
٩- نحن الآن في وسط المعركة والواجب علينا جميعًا كمواطنين أن نلتزم بكل قرار يصدر عن السلطة المختصة بصرف النظر عن تقييمنا الشخصي لهذا القرار أو موقفنا من تلك السلطة، وإن عدم الالتزام طوعيًا الآن، فضلًا عن الخسائر المادية والأهم البشرية التي يمكن أن تنتج عنه، فإنه سيكون سببًا في إجراءات أشد قسوة سيكون الالتزام بها جبريًا، وربما عندها لا ينفع الندم، غير أن ذلك لا يسقط الحق في التقييم والمحاسبة والمراجعة بعد أن تضع الحرب أوزارها، وهو حساب نتمني أن يكون جديًا، وأن يبدأ بتغييرات جذرية للسياسات لا أن يقتصر على تغيرات شكلية للشخصيات.
١٠- أكثر ما سمعته علي ألسنة المواطنين هذه الأيام: "خليها على الله - مصر محروسة - وربنا اللي ساترها"، ورغم يقيني بصحة ذلك إلا أن الله قد أمرنا بالأخذ بالأسباب وألا نلقى بأيدينا إلى التهلكة، وإذا كان خطيرًا أن تصاب الجموع بالهلع أو الجزع، فقد يكون أكثر خطورة أن تركن إلى الإهمال أو اللامبالاة خاصة وأن الخطر كبير وقريب، ولذلك علينا أن نتواصي فيما بيننا بـ: "خلي بالك من نفسك، وخلي بالك على اللي حواليك، ولازم نسأل على بعض ونحس بالقريب والجار اللي ظروفه صعبة ومايقدرش يتحمل وقف الحال، وده الوقت اللي لازم المليان يكب على الفاضي".
حفظ الله وطننا، وشعبنا، وأمتنا، والإنسانية أجمع.