"دعني أدخل إسطنبول وأعزل السلطان".. كواليس سيطرة الجيش المصري على تركيا قبل 200 سنة
- قائد الجيش المصري بدأ المسيرة على متن الفرقاطة "كفر الشيخ".. وهزم الأتراك في قونية وهم ثلاثة أضعاف
- إبراهيم باشا لمحمد علي: لنقضي على جيش الصدر الأعظم الآن.. والوالي يرفض: عليك بالحذر والاعتدال
مصر شوكة في حلق
الأتراك.. لطالما كان الوضع هكذا عبر التاريخ. فبرغم أن العثمانيين نجحوا في
احتلال "المحروسة" وضمها إلى دولتهم الكبرى عام 1517 فإن ردت لهم الضربة
بعد 3 قرون وكادت تسقط وتهين إمبراطورية الأناضول.
لنا أن نتخيل أن أن
يكون قائد الجيش المصري على بُعد 200 كيلو متر فقط من عاصمة الخلافة العثمانية،
هكذا وبهذه البساطة كان بإمكان إبراهيم باشا أن يقتحم بجيشه الأستانة ويسقط الباب العالي
ويتربع على ضفاف البوسفور، قبل أقل من 200 سنة.
مشاهد من قصة
اقتراب مصر من إسقاط دولة الأتراك في العام 1832 يرويها ببراعة ودقة الؤلف الفرنسي
مصري المنشأ جيلبرت سينويه، في كتابه "الفرعون الأخير محمد علي".
يروي
"سيويه" في الكتاب كيف فكر محمد علي في التوغل في آسيا للسيطرة على
سوريا إيمانا بموقعها الإستراتيجي بالنسبة لمصر، ثم تطور الأمر فطور قائد الجيوش
المصرية، ابنه إبراهيم باشا، المعركة إلى الولايات العثمانية التي راحت تسقط على
يديه تباعا.
يقول إنه في بداية
شهر أكتوبر لعام 1831 كانت القوات المصرية جاهزة للانطلاق لكنها شُلت بوباء
الكوليرا الذي عصف بالبلد. و"ما إن تحسن الوضع حتى قام جيش قوي مؤلف من خمس
وعشرين ألفا، جُعل تحت إمرة إبراهيم، وأخذ طريقه إلى عكا.
مع نهاية الشهر
كان الجزء الأكبر من الجيش في قلب سيناء، مواصلا مسيرته، تحت قيادة إبراهيم يغن،
الملقب بـ"الصغير" لتمميزه عن ابن محمد علي، إبراهيم باشا الكبير، الذي
كان قصد يافا بحرًا.
كان إبراهيم باشا
على متن فرقاطة اسمها "كفر الشيخ"، متبوعا بفرقة مؤلفة من سفينة حربية
صغيرة وثلاثة مراكب حربية صغيرة، في حين كان على بقية أسطوله أن يلحق به فيما بعد
إلى عكا.
يستكمل المؤلف:
"وصلت قوات إبراهيم "الصغير" إلى غزة في السابع من شهر تشرين
الثاني، واحتلها في ذلك المساء، وتقف على مشارف يافا في العاشر منه حيث كانت
المدينة تحت قبضة إبراهيم "الكبير" من دون أية بطولة. ذلك أن الحامية
التركية، ما إن علمت بوصوله حتى فرت لاجئة إلى القدس".
اجتمع الجيش إذن
في 24 نوفمبر وواصل طريقه إلى حيفا التي سقطت أيضا دون مقاومة، وفي ديسمبر كانت
عكا، التي كانت حامية محصنة، بدأت تلوح في الأفق.
بدأ إبراهيم باشا
في مهاجمة عكا. يقول الكتاب: "وعلى امتداد عشرة أيام، ظلت الهجومات مكثفة،
والقصف مستمر، ودوما من دون نتائج. ويحاول السلطان الغاضب من إسطنبول التوصل إلى
اتفاق".
نلاحظ هنا قلق
السلطان العثماني محمود الثاني من تحرك محمد علي، فأخذ يبعث برسائل تحاول إثنائه
عن التقدم لكن حاكم مصر رفض كل ذلك، وفي نفس الوقت امتد الحصار دون بوادر لدخول
عكا، فطلب إبراهيم من أبيه إمدادت عسكرية، ففتح المدينة السورية الحصينة.
كان لسقوط عكا في
إيدي إبراهيم باشا تأثير كبير في إسطنبول، وأصبح محمد علي سيدا على سوريا، فأمر
ابنه بمواصلة المسيرة نحو دمشق التي دخلها بعد خمسة أيام دون مقاومة بعد أن فرَّ
حاميها علي باشا، وكان ذلك في يونيو 1832.
يقول المؤلف عن
أهمية دمشق لمحمد علي: "لمّا كانت محمية بسور متداعًّ، وبقلعة صغيرة مربعة،
فإنها لم تكن تمنح أي امتياز عسكري، فكان ما يبرر احتلالها فقط وضعيتها الدينية
والسياسية في الإمبراطورية. فهي العاصمة الأولى لقوة الخلفاء وحصن الإسلام أيام
الحملة الصليبية، وهي أيضا البلد المفضل لحكومة السلاطين، وصلة الوصل بين إسطانبول
ومكة".
ونشير هنا إلى أنه
لاحقا بعد انتهاء المعارك ستصبح دمشق هي المركز الإداري المصري في ظل ولاية
إبراهيم باشا عليها.
بعد السيطرة على
دمشق والتقدم قليلا باتجاه البلدات التركية، تجلى الخلاف في وجهات النظر بين محمد
علي وبين ابنه قائد الجيش، إذ كان الأول يفضل التريث فيما رأى إبراهيم أن الأرض
ممهدة إلى مواصلة الزحف نحو الأستانة.
يشير المؤلف:
"ظل محمد علي الحائر يترقب أي إشارة من الغرب لتريه الطريق التي عليه سلكها.
أما إبراهيم فقد كان يتميز غضبا في سفوح جبال طوروس، إذ أنه يريد أن يمضي قدما،
ويتحرك إلى قونية النقطة الاستراتيجية، ويسبق الأتراك قبل أن يتوفر لديهم الوقت
لتجميع قوات جديدة".
ويضيف جيلبرت
سونويه في كلمة مركزة عن إبراهيم باشا: "ولو أن الأمر كان عائدا إليه وحده،
لكان الآن على ضفاف البسفور".
بعد مراسلات أقنع
إبراهيم أباه بالتقدم قليلا مرة أخرى، وهكذا تحرك الجيش إلى أضنة وصولا إلى طرطوس،
وسلك طريق نمرود التي تركها الأتراك من دون حماية، ثم احتل قونية في 18 نوفمبر
1832 دون أن يطلق رصاصة.
هنا اشتد الاختلاف
بين وجهتي نظر محمد علي وإبراهيم ابنه، وتكشف لنا الرسائل بينهما ذلك بشكل واضح.
ففي رسالة قال إبراهيم
لأبيه: "سبق وأن أمرتمونا بالوقوف سابقا في حلب، وأذنتم لنا فيما بعد بالتقدم
إلى كولك بوغاز ثم إلى قونية"، ثم يطلب في حسم: "دعونا الآن إذن نقضي
على جيش الصدر الأعظم".
لكن رد محمد علي
كان كالتالي: "لتعلموا يا بني العزيز بأننا لم نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم
إلا بالمرونة والحذر والاعتدال"، متخوفا من ردة فعل الدول الأوروبية، ولأنه
لم يكن من ضمن أهدافه من البداية إسقاط الباب العالي.
تظل المراسلات
جيئة وذهابا بين قائد الجيش وأبيه إلى أن يقنعه مرة أخرى بدخول قونية، بالقرب من
وسط الأناضول، وهناك هزم إبراهيم الجيش التركي ببراعة.
ينقل المؤلف عن
شهود تلك الفترة: "كانت المرة الأولى التي خاض فيها إبراهيم حربا دفاعية، وقد
أدارها بشكل رائع بعد أن أدرك وأبان بأن الدفاع لا يمكنه أن يصنع نصرا، إلا إذا
كان أساسه العمل والحركة، ولو أنه بقى جامدا تحت أسوار قونية، من المؤكد أن الجيش
التركي كان سيضعه في موقف سيء. وبأخذه المبادرة في المناورة، وبسحبه خصمه إلى
الأرض حيث يمكنه هزمه، تفوق على عدوه الذي كان يفوقه عددا بثلاثة أضعاف".
يحب مؤلف الكتاب
عقد مقارنة بين أحلام نابليون بونابرت التي لم تتحقق وبين طموحات إبراهيم باشا
العسكرية وكيف كان قادرا على تحقيقها في طريقه إلى الأستانة.
يقول عن قائد
الجيش المصري: "استمد الابن من نابليون بونابرت، مثال والده الأعلى، جزءا من
عبقريته، ومن الآن فصاعدا لا شيء يمكنه أن يوقف إبراهيم حتى البسفور التي تبعد
بأربعمائة كيلو متر عنه".
كان قلب الدولة
العثمانية قريبا للغاية بالفعل، وهو أمر مغر لقائد عسكري بارع مثل إبراهيم، فكتب
لوالده في 28 ديسمبر 1832: "يمكننا التقدم حتى إسطانبول، وخلع السلطان بسرعة
من دون مشاكل".
هكذا كانت رغبة
إبراهيم الذي كان يرى أن الخلاص من حكم العثمانيين فيه منفعه لـ"الأمة
الإسلامية" ككل وليس لمصر فقط. إنه يقول لمحمد علي في نفس الخطاب بصراحة:
"لولا آخر أمرين منكم، واللذين منعانا من أي تقدم، لكنا الآن نطرق أبواب
إسطانبول".
في المقابل، كان محمد
علي "مرعوبا" من كون احتلال إسطنبول سيجر عليه تدخل أوروبا لتحقيق حلمها
القديم في تقسيم الإمبراطورية العثمانية، والذي سيدفع إنجلترا، وهو متأكد من هذا،
إلى احتلال مصر.
ومع تردد محمد علي، تدخلت دول أوروبا ولجأت السلطان العثماني إلى قياصرة روسيا طالبا الدعم، فعُقدت معاهدة صلح سميت "اتفاقية كوتاهية"، وهي مدينة تركية، وذلك في أبريل 1833 قضت بتخلي الدولة العثمانية لمحمد علي عن الشام وإقليم أدنة وتثبيته على حكم مصر والحجاز وجزيرة كريت، مقابل جلاء الجيش المصري عن باقي بلاد الأناضول.