السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق 21 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
أراء كتاب

طارق العوضي يكتب: طريقي من الزنزانة إلى روب المحاماة (1)

الرئيس نيوز

كان العام 1986 مليئا بالأحداث السياسية الصاخبة، وكانت المعارضة المصرية متبلورة في 3  أحزاب كبرى هي الوفد – التجمع – العمل.

كانت حادثة اغتيال الشهيد سليمان خاطر ومن قبلها بأيام "أحداث الطائرة المصرية"، تسيطر على المشهد السياسي الجامعي والهتافات ترج أركان الجامعات المصرية مرددة: "عسكري سيناء مش مجنون.. عسكري سيناء مقدرش يخون".

كنت وقتها في نهاية السنة الأولى بكلية الحقوق – جامعة عين شمس، حيث نجحت في هذا العام، وطوال إجازة آخر العام قضيتها في رحلة عمل إلى الأردن حتى أتمكن من توفير نفقات دراستي وأسعار الكتب وملابس تليق بطالب جامعي شاء حظه أن يكون ابن أسرة فقيرة.

جاء العام الدراسي 87 / 88 حيث بدأت أحدث الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وكان التليفزيون يعرض صور الأطفال فيما عرف "بانتفاضة الحجارة"، وزادت المظاهرات الطلابية والعمالية بشكل غير مسبوق، وكانت معارض الصور المفروشة على طول ممرات الجامعة وحوائطها تشعل الحماس في نفوس الطلاب، حتى أننا كنا نذرف الدموع ولم نكن نعرف وقتها هل نذرفها حزنا على الشهداء من الأطفال والنساء أم حزنا على عجزنا وقلة حيلتنا ونحن للتو قد غادرنا مرحلة الطفولة وبدايات شباب لم تتشكل ملامحه بعد.

في نهايات النصف الثاني من العام الدراسي الأول كان قد تم القبض على أغلب القيادات الطلابية ولاذ من لم يقبض عليه منهم بالهروب وكنت مشاركا في جميع المظاهرات أردد الهتافات وأحفظها عن ظهر قلب.

فوجئت بحالة من الهدوء تسود جامعة عين شمس ونظرات الطلاب إلى بعضهم البعض تحمل سؤالا واحدا هي المظاهرة هتبدأ امتى؟؟.. وتحذيرات العيون من لحظات الإحباط ورفض الانصياع لقرار الأمن بتوقف المظاهرات عن طريق القبض على قيادات الحركة الطلابية وقتها.

وجدتني دون أن أدرك أي معنى لما أفعله وقتها أعتلي سورا أمام كافتيريا كلية الحقوق وأتحدث عن زملائي المعتقلين الذين لا أعرفهم شخصيا ولا يعرفون عن سوى اسمي الأول فقط، وجدتني أخطب بحماس وأنا أبكي حزنا على اعتقالهم وتوقف مسيرات التضامن مع انتفاضة الحجارة ثم وجدتني اهتف:

طفل بيجري شمال ويمين

لسه مقلش يا فلسطين

لسه مخدش الرضعه يا ناس

أخد الرضعه في قلبه رصاص

لم ألتفت إلى قيام الطلاب بترديد الهتافات من بعدي وبكاء الطالبات وأنا أبكي بحرقة عندما أردد هتاف "أخد الرضعة في قلبه رصاص".

حملني أحد الطلاب فوق كتفيه في مسيرة تقدر بالعشرات وانطلق بي في مسيرة تطوف ممرات الجامعة ووصلت بنا  إلى الباب الرئيسي على شارع الخليفه المأمون لأجد الآلاف من الطلبة والطالبات، فوجئت بأنني أؤلف الهتافات في الفترة ما بين الهتاف والهتاف.

وكنت عندما أتوقف عن الهتاف يصمت الطلاب محدقين أبصارهم تجاهي تناديني نظراتهم.. استمر.. مفيش حد غيرك بيعرف يهتف.. وبالفعل استمر إلى أن ينتهي اليوم بعشرات من القنابل المسيلة للدموع وعشرات من المقبوض عليهم.

استمرت تلك المظاهرات بذات الطريقة لما يقرب من أسبوعين مظاهرات بقائد واحد مجهول الاسم (كاملا) والكلية والفرقة الدراسية وتنتهي بعشرات من قذائف القنابل المسيلة للدموع وعشرات من الطلاب المعتقلين.

إلى أن جاء يوم 18 يناير 1988 والذى كنت أجهل مدلوله ومناسبته حتى ذلك اليوم، دخلت إلى الجامعة باحتياطات أمنية تعلمتها بفطرة البشر الذين ينأون بنفسهم عن الهلاك. فوجدت استعدادات أمنية غير عادية وأعدادا كبيرة من الشباب لا يبدو عليهم أنهم طلاب الجامعة ولم أتوقع أبدا أنهم مخبرين فقد كان لدي قناعة بقدسية الحرم الجامعي!

تقدم نحوي مجموعة من هؤلاء الغرباء يسألونني متى ستبدأ المظاهرة؟ فقمت بالرد عليهم (حالا فين معرض الصور؟) قاموا هم بإحضار معرض الصور وافتراشه أرضا وبدأنا المظاهرة وحملني أحدهم في مسيرة انتهت إلى الباب الرئيسي كالعادة، وفجأة ينفتح الباب ويسرع من يحملني بالخروج وسط صفين من الأمن المركزى ليلقي بي داخل سيارة مصفحة وحيدا اللهم من ضابط مباحث أمن الدولة

وللحديث بقية.