عاجل| موقف استراتيجي.. لماذا ترفض مصر إدارة غزة؟

رفضت مصر بشدة الاقتراح الذي قدمه زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد الشهر الماضي، والذي اقترح تولي مصر إدارة قطاع غزة لمدة تصل إلى 15 عامًا مقابل إلغاء ديونها الخارجية.
وكان الرد المصري واضحًا وحاسمًا، حيث صرّحت وزارة الخارجية بأن هذه المقترحات "محاولة للالتفاف على موقف مصر والعالم العربي الثابت"، مؤكدةً على ضرورة انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وأشار موقع يورآسيا ريفيو المتخصص في الشؤون الجيوسياسية، إلى أن هذا الرفض ليس مجرد موقف سياسي عابر، بل هو استمرار لموقف مصر الثابت تجاه القضية الفلسطينية. فقد دأبت مصر على معارضة أي مقترحات من شأنها ترسيخ الاحتلال أو تقويض القضية الفلسطينية. كما رفضت سابقًا المشاركة في قوات دولية داخل غزة، مما زاد من تأكيد موقفها الرافض لتولي أي مسؤوليات أمنية أو إدارية في القطاع.
إن فكرة إدارة مصر لغزة ليست جديدة، فقد حكمت مصر القطاع بين عامي ١٩٤٨ و١٩٦٧. في البداية، كان غزة تحت إدارة حكومة عموم فلسطين، التي كانت مدعومة من القاهرة ولكنها افتقرت إلى اعتراف دولي فعال. ونتيجةً لذلك، وضعت مصر غزة لاحقًا تحت الحكم العسكري المباشر دون ضمها رسميًا، وخلال هذه الفترة، واجهت غزة تحديات اقتصادية وإنسانية حادة، تفاقمت بتدفق أكثر من ٢٠٠ ألف لاجئ فلسطيني بعد نكبة ١٩٤٨. لم يكن لدى مصر خطة سياسية طويلة المدى لحكم غزة؛ بل اعتبرت إدارتها مسؤولية مؤقتة إلى حين التوصل إلى حل شامل للقضية الفلسطينية.
وانتهى الحكم المصري في غزة بعد حرب ١٩٦٧، عندما احتلت إسرائيل القطاع مع الضفة الغربية وسيناء. منذ ذلك الحين، لم تلعب مصر دورًا مباشرًا في إدارة غزة، لكنها ظلت لاعبًا رئيسيًا في الشؤون الأمنية والوساطة السياسية، وينبع رفض مصر لمقترح لبيد من مخاوف متعددة، أهمها الأمن القومي. تخشى القاهرة من أن يُشكّل توليها إدارة غزة عبئًا أمنيًا كبيرًا، لا سيما في ظلّ الديناميكيات الداخلية المعقدة للقطاع ووجود فصائل مسلحة خارجة عن سيطرة السلطة الفلسطينية. إذا تولّت مصر المسؤولية الإدارية، فقد تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع جماعات المقاومة، مما قد يؤدي إلى صراعات غير مرغوب فيها قد تُزعزع استقرار الأمن الداخلي المصري.
بالإضافة إلى ذلك، تخشى مصر من أن يصبح غزة منطقة غير مستقرة تستغلها الجماعات المتطرفة كقاعدة لشنّ هجمات على شمال سيناء. ولتجنب مثل هذه السيناريوهات، تحرص القاهرة على منع أي وضع من شأنه أن يُورّطها في تحدٍّ أمني معقد على حدودها الشرقية.
كما ترفض مصر أي دور من شأنه أن يجعلها منفذًا أمنيًا لإسرائيل. من وجهة نظر القاهرة، يُعدّ مقترح لبيد محاولةً لإلقاء مسؤولية غزة على مصر، مما يسمح لإسرائيل بالتهرب من التزاماتها. بدلًا من تحمّل تكاليف إعادة الإعمار بعد الدمار الذي خلّفته العمليات العسكرية الإسرائيلية، يبدو أن تل أبيب تسعى إلى إلقاء هذا العبء على عاتق مصر، ويتماشى هذا الموقف مع سياسة مصر الرافضة لأن تكون أداةً لتنفيذ الاستراتيجيات الإسرائيلية التي لا تُسهم في حلٍّ شامل للقضية الفلسطينية. تُدرك القاهرة أن أي تدخل مباشر في إدارة غزة قد يُنظر إليه على أنه خدمة للمصالح الإسرائيلية على حساب الحقوق الفلسطينية.
كما تُعرب مصر عن قلقها العميق من أن يكون تولي إدارة غزة بمثابة الخطوة الأولى في خطة أوسع لفصل القطاع بشكل دائم عن الضفة الغربية، مما يُفكّك فعليًا القضية الفلسطينية. إذا أُخرجت غزة من المعادلة الفلسطينية الأوسع، فقد يُمهّد ذلك الطريق لمبادرات تهدف إلى إعادة توطين الفلسطينيين خارج الضفة الغربية - وهي فكرةٌ عارضتها مصر باستمرار.
وهناك أيضًا خوفٌ شديد من أن يؤدي قبول السيطرة على غزة إلى خطةٍ أوسع لنقل الفلسطينيين من القطاع إلى شبه جزيرة سيناء. ترفض مصر بشدة هذا السيناريو، لأنه لن يُقوّض سيادتها الوطنية فحسب، بل سيُشكّل أيضًا تهديدًا خطيرًا لاستقرارها.
من العوامل الرئيسية الأخرى في رفض مصر للمقترح الاعتقاد بأن تحدياتها الاقتصادية لا تبرر التنازل عن سياساتها الوطنية. فعلى الرغم من الحوافز الاقتصادية التي تضمنها اقتراح لابيد، وخاصةً عرض إلغاء ديون مصر، فقد أوضحت القاهرة أنها لن تقايض مواقعها الاستراتيجية بالإغاثة المالية.
وقد أكد المسؤولون المصريون مرارًا وتكرارًا أنه على الرغم من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، فإن قبول مثل هذا العرض قد يؤدي إلى عواقب سياسية وأمنية تفوق بكثير أي فوائد اقتصادية مؤقتة.
لم يكن اقتراح لبيد المحاولة الأولى لإقناع مصر بتولي إدارة غزة. ففي عام ٢٠٢٣، قدمت الولايات المتحدة اقتراحًا مشابهًا بأن تشرف مصر مؤقتًا على أمن غزة، لكن القاهرة رفضته أيضًا. ناقش مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك، ويليام بيرنز، الفكرة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الذي رفض الاقتراح رفضًا قاطعًا.
علاوة على ذلك، رفضت مصر المشاركة في أي قوات دولية داخل غزة، معتقدةً أن مثل هذه المشاركة ستجعلها طرفًا مباشرًا في صراع طويل الأمد، مما يؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها.
لم تكتفِ مصر برفض فكرة حكم غزة، بل اقترحت أيضًا حلولًا بديلة تركز على الحكم الذاتي الفلسطيني. أحد هذه الحلول هو إعادة سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة كخطوة نحو الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسامات الداخلية.
بالإضافة إلى ذلك، اقترحت القاهرة تشكيل حكومة فلسطينية غير حزبية للإشراف على كل من الضفة الغربية وغزة - وهو اقتراح عارضته إسرائيل. كما عرضت مصر تقديم دعم أمني ولوجستي محدود، مثل مراقبة الحدود وتدريب أفراد الأمن الفلسطينيين، مع رفضها القاطع أي دور إداري مباشر.
وأشار التحليل إلى أن موقف مصر من غزة واضح واستراتيجي: فهي ترفض أي دور إداري مباشر داخل القطاع، وتعارض أي خطط من شأنها تقويض القضية الفلسطينية. ويتجلى هذا الموقف في رفضها المتكرر للمقترحات الإسرائيلية والأمريكية، رغم الضغوط السياسية والحوافز الاقتصادية.
من وجهة نظر القاهرة، لا يكمن حل أزمة غزة في الإدارة المصرية، بل في تسوية شاملة تتضمن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، واستعادة السلطة الفلسطينية سيطرتها على غزة، وضمان حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة. ولا تزال مصر ملتزمة بدورها كوسيط، لكنها ترفض أن تصبح طرفًا مباشرًا في أزمة تعتقد أنها ليست من مسؤوليتها.