عظة البابا تواضروس في عيد الميلاد: القلوب الدافئة لا تنجرف وراء الترندات
ألقى البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية، عظة في كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية جاء فيها:
أهنئكم جميعا بعيد الميلاد المجيد، وأصلى أن يملأ الله حياتكم بنعمته وسلامه، وأنتهز الفرصة لكى أهنئ كل الكنائس المسيحية التي تحتفل في هذا اليوم، كما أهنئ جميع الإيبارشيات والكنائس والأديرة القبطية المنتشرة فى جميع قارات العالم، هذا اليوم الذى أضاء فيه نور السماء على الأرض، وتجلت محبة الله للبشر من خلال ميلاد السيد المسيح، ميلاده الذى صار نقطة تحول فى تاريخ الإنسانية، وفتح باب السماء أمام البشرية جمعاء، أنه يوم يذكرنا بحقيقة الخلاص ويزرع فى قلوبنا الفرح والرجاء.
إن قصة الميلاد ليست مجرد حدث تاريخي إنما يجب أن نقف أمام أحداث الميلاد لنستلهم منها دروسا لحياتنا. فهى رسالة حية لكل واحد منا، فوسط البساطة التي أحاطت بميلاده، نتأمل حول طبيعة القلوب البشرية التي أحاطت الحدث، نجدهم أشخاصا حملوا أنواع قلوب متنوعة بعضهم يحمل قلوبا باردة لا تقبل كلمة الله ولا تحفظها، والآخر قلوبا دافئة تفتح حياتها للإيمان وتثمر بوفرة، ولا أجد وصفا لنوعيات القلوب أفضل من مثل الزارع الذى قصه السيد المسيح على الشعب وفصل فيه القلوب كنوعيات من الأرض التى تسقط عليها البذور:
1. أرض الطريق: كما قال السيد المسيح "كل من يسمع كلمة الملكوت ولا يفهم، فيأتي الشرير ويخطف ما قد زرع فى قلبه. هذا هو المزروع على الطريق" (متى 13: 19). هذه القلوب مغلقة، منشغلة بالعالم، لا تعطى فرصة للكلمة الإلهية أن تدخل أو تنمو. مثل هؤلاء كانوا موجودين في أحداث الميلاد، كقلب هيرودس الذي امتلأ بالخوف والغيرة، فلم ير في ميلاد المسيح إلا تهديدا لسلطانه الأرضي.
2. أرض الحجر: "والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذى يسمع الكلمة ويقبلها حالا بفرح، ولكن ليس له أصل في نفسه، بل هو إلى حين" (متى 13: 20-21). هذه القلوب تفرح بالكلمة مؤقتا، لكنها تتراجع سريعا عند مواجهة التجارب. مثل هؤلاء نراهم فى العالم اليوم حين يكون إيمانهم سطحيا، لا يقوى على مواجهة الضغوط والتحديات.
3. أرض الشوك: "والمزروع بين الشوك هو الذى يسمع الكلمة، وهم هذا العالم وغرور الغنى يخنقان الكلمة فيصير بلا ثمر" (متى 13: 22). هذه القلوب تختنق بالهموم والشهوات، فلا تدع الكلمة تنمو وتثمر. وهؤلاء يشبهون الكتبة والفريسيين في قصة الميلاد، الذين عرفوا النبوات ولم يتحركوا للإيمان.
أما القلوب الدافئة، فهي التي تشعر بالإنسانية وتتجاوب معها، وتقبل الكلمة بفرح، وقد أشار السيد المسيح إلى ثلاث درجات من هذه الثمار:
1. الأرض التي أثمرت ثلاثين: تمثل النفوس التي تؤمن لكنها تحمل بعض الخوف أو الشك. ورغم ذلك، فهي تثمر. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "القلب الخائف يثمر، لكنه يحتاج إلى النعمة ليزيل عنه الخوف ويمنحه جرأة الإيمان."يمكننا أن نرى هذا النوع فى حياة الرعاة. فقد كانوا فى البداية خائفين من رؤية الملاك، لكنهم تحركوا بإيمانهم البسيط، وجاءوا ليسجدوا للطفل الإلهى.
2. الأرض التي أثمرت ستون: تمثل النفوس التي تعمل بدافع الأجر، لكنها ما زالت تحمل محبة لله. هي قلوب تجتهد وتثمر، لكنها تنتظر مكافأة سماوية. يقول القديس كيرلس الكبير: "النفوس التى تعمل برجاء الثواب هى فى طريقها للكمال، لأنها بدأت السير فى طريق المحبة».
يمكننا أن نجد هذا النوع في المجوس، الذين قدموا هداياهم بسخاء وسجدوا للمسيح، مدفوعين برغبتهم فى لقاء الملك المخلص.
3. الأرض التى أثمرت مائة: هذه القلوب تمثل النفوس التى تمتلئ بمحبة الله الكاملة، ولا تخاف ولا تنتظر أجرا. هي النفوس التى تعطى كل ما لديها بدافع الحب الخالص. يقول القديس أغسطينوس: "القلب الذى يحب الله بلا حدود هو الأرض المثمرة التى تفرح السماء بثمرها. "هذا النوع من القلوب نجده فى العذراء مريم، التى قدمت ذاتها بالكامل لله، قائلة: "هوذا أنا أمة الرب ليكن لى كقولك" (لوقا 1: 38).
إن ميلاد المسيح يدعونا أن نفحص قلوبنا إذا كنا نحمل قلوبا باردة، فلنطلب من الرب أن يمنحنا نعمة التوبة، لأن الكلمة الإلهية تستطيع أن تحول أرضا قاحلة إلى بستان مثمر. وإذا كنا نحمل قلوبا دافئة، فلنجتهد لننتقل من ثمرة الثلاثين إلى المائة، لأن الله يدعونا دائما إلى الكمال. لنتأمل فى كلمات القديس يوحنا الرسول: "المحبة تطرح الخوف إلى خارج" (1 يوحنا 4: 18). فإذا امتلأت قلوبنا بالمحبة، سنثمر كما أثمرت الأرض الجيدة.
إن ميلاد المسيح هو دعوة لكل واحد منا أن يجعل قلبه مذودا يولد فيه. فإذا كانت قلوبنا تحمل الخوف، فليشرق عليها نور السماء كما أشرق على الرعاة. وإذا كنا نتعب ونعمل منتظرين أجرا، فلنطلب من الله أن يملأ قلوبنا بالمحبة. وإذا كنا نحمل حبا لله، فلنجعل هذا الحب بلا حدود، فنثمر مائة ونكون نورا للعالم.
ولكن ما صفات أصحاب القلوب الدافئة؟
أولا: الحياة البسيطة
أصحاب القلوب البسيطة يتميزون بالقدرة على المرور بالمشاكل دون أن يتأثروا بها، إذ يلقون همومهم على الله الذى يحملها عنهم. نقبل الأحداث بصدر رحب، دون أن نسمح للقلق أو التعقيد أن يسيطر علينا، معتمدين على الله فى كل خطوة. ويعلمنا السيد المسيح "سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرا،" (مت 6: 22).
الرعاة كانوا يعيشون حياتهم اليومية فى الحقول، بعيدا عن صخب المدن، يعملون فى رعاية أغنامهم بقلوب نقية وقانعة. هؤلاء البسطاء لم يكن لديهم الكثير، لكنهم كانوا أصحاب قلوب مفتوحة ومهيأة لسماع صوت الله. سهروا وكانوا يعملون بكل جدية وضمير صالح واجتهاد، وحينما ظهر لهم الملاك ببشارة الميلاد، لم يترددوا، بل أسرعوا ليجدوا الطفل الإلهى فى المذود. لذلك استحقوا أن يختبروا ويروا حضور الله. لقد كانت قلوبهم دافئة بالمشاعر رغم برودة الطقس وقتها.
ثانيا: الباحثون عن الحقيقة
القلوب الدافئة تبحث دائما عن الحقيقة ولا تنجرف وراء الترندات أو النميمة أو الأخبار الكاذبة أو الشائعات. هؤلاء لا يجدون راحتهم إلا فى اكتشاف الحقائق،. يدركون أهمية التوقف عن الانشغال بالأحداث بل البحث عن ما هو للبناء، ما هو للفائدة، ما هو للملكوت، والسعى لإيجاد الحقيقة والتمسك بها بشجاعة.
من الشرق البعيد، جاء المجوس، قادهم نجم سماوى ليصلوا إلى المسيح الوليد. كانت رحلتهم طويلة وشاقة، لكنها كانت مليئة بالإصرار والشوق لمعرفة الحق. عندما وجدوا الطفل يسوع، سجدوا له وقدموا له الذهب واللبان والمر، رموز الإكرام والعبادة والفداء. إن المجوس يمثلون كل إنسان يبحث عن الحقيقة فى هذا العالم، ومنهم نرى أن البحث الجاد والإخلاص فى السعى يؤدى دائما إلى لقاء المسيح، الذى هو الطريق والحق والحياة، لقد كانت قلوبهم دافئة بالإصرار رغم مشقة الطريق وصعوبته.
ثالثا: الصمت فى العمل
أصحاب القلوب الدافئة لا يصنعون ضجيجا حولهم، بل يعملون فى هدوء وصمت، مؤثرين فى محيطهم بأفعالهم لا بأقوالهم. مبتعدين عن التفاخر أو البحث عن التقدير، وتركيزهم دائما على العمل الجاد والإخلاص بصمت.
يوسف النجار كان رجلا صامتا، لكنه مليء بالإيمان والعمل، فقبل أن يكون حارسا لسر التجسد من خلال رعايته للعذراء مريم وللطفل يسوع، فقد كان دائما يضحى براحته لأجل أمان عائلته المقدسة. لم يبحث يوسف عن مكانة أو مجد، بل كان همه الوحيد هو أن يتمم إرادة الله بأمانة وتفان. القديس يوسف النجار يعلمنا أن الخدمة الحقيقية ليست فى الكلام الكثير، بل فى الأفعال الصادقة وفى الصمت المملوء بالإيمان، لقد كان ذو قلب دافئ يشعر بمسئوليته ويؤديها فى صمت.
رابعا: الطاعة القلبية
الطاعة الحقيقية تنبع من القلب، لا من الإجبار، هذه الطاعة القلبية تلهمنا أن نقبل المهام والمسئوليات بروح إيجابية دون تذمر، ونتعلم الثقة بأن لله خطة أعظم من إدراكنا البشرى.
العذراء مريم، تلك الفتاة النقية التى اختارها الله ليحل فى أحشائها كلمة الله المتجسد. حينما أرسلت إليها البشارة، أجابت بتواضع: "هوذا أنا أمة الرب. ليكن لى كقولك». إن طاعة العذراء ليست مجرد طاعة ظاهرية، بل كانت طاعة نابعة من قلب نقى. علمتنا العذراء أن الطاعة لله تفتح أبواب النعمة، وأن الاتكال الكامل على الله هو مصدر القوة الحقيقية فى حياتنا، لقد كانت تحمل قلبا دافئا فاستحقت كل الإكرام والتطويب.
خامسا: العطاء البسيط
أصحاب القلوب الدافئة راضين بما لديهم، بل ويستخدمونه فى خدمة الآخرين بفرح، مدركين أن العطاء لا يقاس بالكثرة بل بالقلب الذى يقدم به، مهما كانت إمكانياتهم محدودة، فيبارك الله فى قليلهم.
فوسط أحداث الميلاد، يظهر صاحب المذود، ذلك الشخص البسيط الذى أتاح مذوده ليولد فيه الطفل، الطفل يسوع. ربما لم يكن لديه الكثير ليقدمه، لكنه أعطى ما عنده بمحبة، فصار المذود رمزا أبديا لعمل الله فى البساطة. إن هذا الرجل يعلمنا أن الله لا ينظر إلى حجم ما نقدمه، بل إلى المحبة التى تملأ قلوبنا عند العطاء.
حتى أبسط الإمكانيات يمكن أن تصبح عظيمة عندما نقدمها بصدق وإخلاص. ورغم أننا لا نعرفه إلا أنه بسبب قلبه الدافئ فإن الله يعرفه جيدا.
وهكذا فإن صفات أصحاب القلوب الدافئة تظهر فى شخصيات الميلاد لكنهم جميعا يجمعهم ثلاث فضائل، ترتبط ببعضها ارتباطا وثيقا.
الحب
الحب هو الأساس الذى يجعل القلوب قادرة على استقبال النعمة الإلهية. الرعاة أحبوا الله ببساطتهم، فقبلوا البشارة بفرح وأسرعوا إلى المذود، المجوس أحبوا الحق، فبحثوا عنه وقدموا أغلى ما لديهم تعبيرا عن حبهم، العذراء مريم، نموذج الحب الكامل، قدمت حياتها لله طاعة وتسليما. وكما يقول الكتاب:
"اللٰه محبة، ومن يثبت فى المحبة يثبت فى اللٰه، واللٰه فيه" (1 يوحنا 4: 16).
الحكمة
هى التى تقود فى قراراتنا وأفعالنا، الحكمة هى التى تجعلنا نميز إرادة الله وننفذها، كما يقول الكتاب: "بالحكمة يبنى البيت، وبالفهم يثبت" (أمثال 24: 3). المجوس يمثلون الحكمة فى بحثهم المستمر عن الحقيقة. قادهم النجم ليس فقط إلى طفل المذود، بل إلى ملك الملوك، يوسف النجار كان مثالا للحكمة الهادئة، أطاع الملاك، وقاد العائلة المقدسة بحكمة وصبر بعيدا عن الخطر، العذراء مريم كانت ممتلئة بالحكمة الإلهية، حيث قالت"تعظم نفسى الرب" (لوقا 1: 46)، وهو ما ينم عن وعى عميق بخطه الله.
الرحمة
الرحمة هى التعبير العملى عن الحب والحكمة، بالرحمة تجاه الآخرين، تقدم لهم ما تحتاجه حياتهم بروح العطاء والمحبة. «فالقلب الرحيم هو عرش الله». صاحب المذود أظهر رحمة عندما قدم مكانا بسيطا للعائلة المقدسة فى ليلة الميلاد، الرعاة أظهروا رحمة بمشاركتهم البشارة وفرحهم مع الآخرين.
الله نفسه، الذى تجسد وحل بيننا، أظهر الرحمة العظمى عندما قدم خلاصه للعالم. وكما يقول الكتاب:"فكونوا رحماء، كما أن أباكم أيضا رحيم" (لوقا 6: 36).
إنها دعوة للبشرية أن تحمل قلوبا دافئة مملوءة بهذه الفضائل الثلاث. ليكن حبنا لله وللآخرين صادقا، فى كل كلمة وفعل. لتكن حكمتنا قادرة على تمييز صوت الله وسط ضوضاء العالم. ولتكن رحمتنا تجسيدا عمليا لمحبتنا لله ولإخوتنا. لنجعل حياتنا انعكاسا لهذه القلوب، فلنستقبل السيد المسيح، ليس فقط فى يوم ميلاده، بل فى كل يوم من أيام حياتنا.
ما أحوج عالم اليوم إلى هذه الصفات الثلاث، فالصراع الدائر فى مناطق كثيرة يحتاج الحكمة، والبشرية المشردة جراء الحروب تحتاج الرحمة، والعالم كله يحتاج الحب الذى يتناقص تدريجيا ليحل محله الأنانية والظلم، فيجد الإنسان نفسه فجأة بلا ملجأ بلا أمان، داخل حرب دائرة ليس له فيها يد أو قرار، إنها فرصة لنا جميعا فى بداية هذا العام أن نرفع قلوبنا إلى الله ليتدخل فى القلوب، ويزرع الحب فيها لتحصد البشرية الحكمة والرحمة، ويحرك قلوب المسئولين نحو السلام فى العالم كله، وكما أشرق نجم الميلاد فى سماء بيت لحم، نصلى أن يشرق النور الإلهى فى حياتنا، ويقودنا لنكون نورا للعالم من حولنا.
ولا يفوتنى أخيرا أن أنتهز هذه الفرصة لكى أشكر السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى على زيارته وتهنئته لجموع المصريين بهذا العيد المجيد، وأشكره على جهوده وجهود الدولة جميعا فى الوصول إلى حلول سلمية لسلام وأمن المنطقة ونصلى أن تتكلل هذه الجهود بالنجاح.
كما نشكر كل رجال الدولة الذين قدموا لنا التهنئة بالحضور والمقابلات والمكالمات والرسائل ونصلى أن يديم الله المحبة والروابط العميقة التى تربط جميع المصريين، على أرض هذا الوطن العزيز، كل عام وأنتم بخير وعيد سعيد للجميع.