سجن صيدنايا.. مشاهد صادمة من داخل "المسلخ البشري" السوري
في الساعات الأولى من يوم الأحد، وبالتزامن مع انهيار قوات النظام السوري، سيطرت الفصائل المسلحة على سجن صيدنايا شديد التحصين الذي يقع في ريف دمشق، فكان مؤشرًا على سقوط حكم حزب البعث الذي استمر في سوريا 54 عامًا.
وثقت مقاطع متداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي المشاهد الأولى التي كشفت عن الوجه القاتم لنظام الأسد، ومعه قُلبت صفحة سجن صيدنايا، "المسلخ البشري" في سوريا، لتنتهي عذابات 4 عقود من الزمن، ولتبدأ أيضًا قصص الناجين من الجحيم عن مواجهة الموت بشتى أشكاله في تلك البقعة الوحشية.
أظهرت مقاطع فيديو من داخل سجن صيدنايا، كسر عناصر الفصائل المسلحة السورية أقفال المهاجع والزنازين وتحرير من بداخلها، إلا أنه تعذر الوصول إلى معتقلين آخرين محتجزين في أماكن سرية تحت الأرض ضمن حرم السجن.
وأطلق سراح جميع الأسرى في الطوابق العليا من السجن، الذي يضم آلاف المعتقلين السياسيين، بما في ذلك نساء وأطفال وكبار في السن، وسط مناشدات الأهالي بفتح الطوابق السفلية السرية التي يقبع بها آلاف المعتقلين حتى الآن.
الآلاف خرجوا أخيرًا، ها هم في أزقة دمشق يسارعون الخطى بعضهم حفاة ولم يستوعب بعد أنه لم يعد اختفاء أبديا في تلك الزنزانات الموحشة.
وربما كان لعشرات الناجين الذين ظنوا أن الخروج منه مستحيلًا، كهؤلاء الرجال الأربعة نصيب من فرحة كانوا قبلها على بعد دقائق من إعدام محتم، قالوا إنهم كانوا سيعدمهونهم مع 54 شخصًا آخرين قبل نصف ساعة من إطلاق سراحهم.
وحسب حقوقيين، شهد سجن صيدنايا عمليات تعذيب بشعة نفذت بحق معارضين لنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد.
رسالة من والدة سجين
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي رسالة قالوا إنها من أم سورية تقول فيها: عندما تحرروا سجن صيدنايا أرجوكم لا تدعوهم يهربون (تقصد رجال نظام بشار الأسد) ولا تتفاوضون معهم، هؤلاء الجزارين قد شوهوا جسد ابني ذو العشرين عامًا وعذبوه وأطفأوا السجائر في جبينه ومرّقوا عينتاه الجميلتان وقتلوه، أرجوكم لا تغفروا لهم، أريد حق ابني.
وظهر في مقطع فيديو رجل أشيب الشعر وهو يرتمي في أحضان قريبين له في عناق ممزوج بالذهول والفرح، وتعانق الرجال الثلاثة وانخرطوا في البكاء فرحًا قبل أن يجثو أحدهم على ركبتيه، وهو لا يزال ممسكًا بساقي السجين المحرر.
وفي زاوية أخرى موجعة، وجه آخر لشاب يختصر مدى الآلام التي تشبع بها حد أن أفقدته الذاكرة، يرجف، ويسألونه ما اسمك ولا يجيب.
ولا تزال المحاولات مستمرة من جانب السكان حتى الآن للوصول إلى معتقلين في أقبية تحت الأرض، إذ يتعذر معرفة المداخل والدهاليز في ظل فرار مسؤولي وحراس السجن الذين يعرفون طريقة الوصول إلى هذه الأماكن.
وتداول مشاهد لمحاولة بعض الأشخاص البحث عن أي منفذ يمكنهم من دخول السجون السرية لتحرير من فيها، مطلقين مناشدات لاستقدام مختصين أو خبراء يستطيعون فك لغز هذه الأماكن المروعة.
عزلة عن العالم الخارجي
وخلال عمليات إطلاق سراح السجناء، ظهر المسلحون في مشهد وهم يكسرون أقفال الزنازين وقد بدأوا بعنابر السجينات، وكان لافتًا أنه بعد فتح الزنازين ترددت السجينات في الخروج بسبب الخوف وعدم فهمهن لما يحدث.
بدأ المسلحون في طمأنة السجينات بالقول لهن "لا تخافوا أنتن الآن أحرار"، فبدأت السجينات في الخروج بأقدام مترددة وبدأن يسألن عن هوياتهن وأماناتهن التي تركنها لدى إدارة السجن، فما كان من المسلحين إلا أن قالوا لهن "اذهبن وخذن الأمانات، ولكن لن تحتاجوا إلى هويات ولن يعترضكم أحد في الشوارع".
سألت إحدى السجينات من يطلق سراحها "إلى أين نذهب؟"، فرد عليها "اذهبن إلى حيث تشاؤون".
العزل التام لسجناء صيدنايا عن العالم الخارجي، عبر عنه أحد السجناء الذين خرجوا من السجن وهو يهرول في شوارع دمشق بجسد ضعيف أنهكته سنوات السجن وصنوف التعذيب، ويسأل أحد الأشخاص الذين كانوا يصورون المشهد "شو اللي صار"، فجاءه الرد "سقط بشار"، فيستمر السجين في هرولته مهللا "الله أكبر".
أصغر معتقل
وفي مشهد صادم خلال عملية إطلاق سراح السجناء كان ظهور طفل لا يتعدى عمره ثلاث سنوات يخرج من إحدى الزنازين بعد فتحها ويقف مذهولا متفرجا على ما يحدث، بينما يسأل أحد المسلحين "من هذا الطفل؟"، فتخرج سيدة على ما يبدو أنها والدة الطفل وتمسك بيديه.
البحث عن أقبية سرية
وتبحث فرق الدفاع المدني السوري المعروفة باسم (الخوذ البيضاء) عن وجود أبواب سرية في سجن صيدنايا سيء السمعة.
وأعلن الدفاع المدني، في بيان، أنه أرسل 5 فرق طوارئ مختصة إلى سجن صيدنايا الشهير في ريف دمشق، للبحث عن أقبية سرية يتوقع وجود معتقلين فيها بحسب ناجين.
وتضم فرق الطوارئ فريق إسعاف، وفريق بحث وإنقاذ، وفريق كلاب مدربة، وفريقًا لنقب الجدران، وفريقًا لفتح الأبواب الحديدية.
ماذا نعرف عن سجن صيدنايا؟
سجن صيدنايا هو أحد أكثر السجون العسكرية تحصينا في عهد نظام حافظ الأسد ومن بعده الابن بشار الأسد، وأطق عليه لقب "السجن الأحمر" في إشارة لعمليات القتل والتعذيب الدموية التي يقول حقوقيون إنه شهدها.
كان السجن يتبع وزارة الدفاع السورية ولم تكن لوزارة العدل أو جهات القضاء المدني أي سلطة أو ولاية عليه، وكانت الحراسة عليه 3 مستويات مكونة من الجيش والشرطة العسكرية وشعبة الاستخبارات العسكرية.
وحسب منظمات حقوقية، فإن نظام الأسد كان يفرق في المعاملة بين نزلاء هذا السجن، فالسجناء الأمنيين كانوا يتعرضون لتعذيب ممنهج، وجميع سياسات الحرمان من الطعام والرعاية الصحية.
أما الجنائيين فيتعرضون لتعذيب غير ممنهج، وفي الغالب كانوا يتمتعون بزيارة دورية ومستوى مقبول من الطعام والرعاية الطبية.
مسلخ بشري
السجن الذي تم اعتباره لعقود رمزًا لقمع النظام السوري لمعارضيه، ووصفته قبل سنوات منظمة العفو الدولية بـ"مسلخ بشري"، بُني عام 1987 فوق تلة صغيرة عند بداية سهل صيدنايا، وهي بلدة جبلية تبعد مسافة 30 كيلومترا شمال العاصمة دمشق.
وتُقدر مساحة سجن صيدنايا بـ1.4 كيلو متر مربع، أي ما يعادل ثمانية أضعاف مساحة ملاعب كرة القدم الدولية في سوريا مجتمعة.
ويتكون السجن من بنائين: البناء القديم وهو البناء الأحمر وكان مخصصا للمعتقلين السياسيين والأمنيين من المعارضين للنظام الحاكم، والبناء الجديد المعروف باسم البناء الأبيض، وكان مخصصا للسجناء الجنائيين من العسكريين المخالفين ومرتكبي جرائم الفساد الوظيفي والجرائم الجنائية.
ويعتبر البعض أن سجناء البناء الأبيض الجديد في كل الأحوال يحسبون من أتباع النظام لأنهم كانوا عسكريين فسدوا أو ارتكبوا جرائم سرقة أو قتل وكان يعاقبهم بوضعهم في هذا المكان.
وبعد ما أسقطت الفصائل المسلحة نظام الأسد، بدأت بتحرير سجناء البناء الأبيض ولم تكن قادرة - لبعض الوقت - على الوصول للبناء الأحمر الخاص بالمعارضين وأصحاب الآراء السياسية، وقد رأي بعض المراقبين أنه من الخطأ إطلاق سجناء القضايا الجنائية.
وبعد ساعات من سقوط نظام الأسد أعلن وسائل إعلام سورية أن الفصائل المسلحة تمكنوا من الوصول للمعتقلين في زنازين البناء الأحمر التي كانت محصنة بشكل أكبر وبعضها يقع على عمق كبير تحت الأرض.
وظهر المسلحون في مشاهد وهم يطلقون سراح سجناء البناء الأحمر بينما كان من يصور تلك المشاهد يبحث عن والده بين السجن ويسألهم إذا ما كانوا قد رأوه.