تطورات فرنسا: حكومة تكنوقراط أم ائتلاف "كبير" بين اليسار واليمين؟
عندما صدم الرئيس إيمانويل ماكرون فرنسا الشهر الماضي بالدعوة إلى انتخابات مبكرة، كان يقامر بمستقبل أوروبا وكذلك بلاده، وفقًا لتقرير نشره موقع فرانس 24 الإخباري.
وفي حين يعتمد الكثير على الجولة الثانية من التصويت يوم الأحد، يبدو من الواضح بالفعل أن دور ماكرون كمحرك للتكامل الأوروبي سوف يتضاءل بشكل كبير. إن السيناريوهين الأكثر ترجيحًا ــ حكومة بقيادة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان أو برلمان معلق ــ من شأنهما أن يشكلا تحديات غير مسبوقة للاتحاد الأوروبي. إن الخوف الأكبر الذي يخشاه التيار السياسي التقليدي في الاتحاد الأوروبي يتلخص في انتصار حزب الجبهة الوطنية الصريح، الأمر الذي سيضطر ماكرون إلى "التعايش" مع حكومة معادية لرؤيته للسيادة الأوروبية.
وحتى البرلمان الذي لا يتمتع بأغلبية شاملة، وهو ما يؤدي إلى تحالف غير عملي أو أحزاب تتعاون في كل حالة على حدة، من شأنه أن يحرم ماكرون من حكومة ملتزمة بسياساته. والسؤال المطروح بقوة اليوم هو: كيف يمكن للجولة الأخيرة من الانتخابات التشريعية أن تغير المشهد السياسي الفرنسي إلى الأبد، ولكن المراقبين يفضلون حتى الآن مبدأ "لننتظر وسوف نرى".
ووفقًا لإذاعة مونت كارلو الدولية، ليس واضحا حتى الآن على ماذا سترسو الخريطة السياسية الفرنسية بعد الانتخابات، في ظل الأحاديث عن إمكانية وقوع "تبدلات كبرى" بين جولتي التصويت، قد تؤثر على شكل الحكومة المستقبلية.
وتحظى هذه الانتخابات باهتمام واسع النطاق، حيث يعتزم ثلثا الناخبين التصويت الأحد، وفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة Ifop-Fiducial، وهو ما يعادل أعلى نسبة مشاركة في هذا النوع من الانتخابات منذ العام 1997.
أمام هذا الواقع، لا يستبعد مراقبون إقبال فرنسا على "انسداد مؤسساتي" بعد الانتخابات، في حال لم يتمكن أي من التيارات الثلاثة تحصيل أغلبية معقولة تخوله الحكم دون معوقات. وهذا ما أعاد رئيس حزب "التجمع الوطني" جوردان بارديلا التأكيد عليه الأربعاء بأنّه لن يقبل بتولي رئاسة الحكومة بدون الحصول على غالبية مطلقة، وقال خلال لقاء على قناة "سي نيوز" الإخبارية "أريد أن أحكم، لا أريد أن أذهب إلى ماتينيون (مقر رئاسة الوزراء) لأكون رئيس وزراء بدون سلطة".
حكومة تعايش بين ماكرون واليمين المتطرف
في الإطار، تبرز سيناريوهات أربعة محتملة أمام فرنسا ستنتجها الانتخابات المقبلة؛ بداية، إذا ضمن "التجمع الوطني" وحلفاؤه الأغلبية في الجمعية الوطنية، سيجد ماكرون نفسه مضطرا للـ"تعايش" مع رئيس حكومة من معسكر مضاد.
يذكر أن فرنسا شهدت ثلاث حكومات مماثلة في فترة ما بعد الحرب، لكن جميعها كانت حكومات "تعايش" بين اليسار ويمين الوسط، آخرها استمرت من 1997 إلى 2002 بين الرئيس جاك شيراك ورئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان.
لكن في هذه الحالة، من المتوقع أن يسود "التعايش" توترات مستمرة بين ماكرون واليمين المتطرف، خاصة حول تنفيذ "التجمع الوطني للبرامج والمشاريع التي وعد بها خلال حملته الانتخابية، وقدرة الرئيس على الحد من تلك البرامج، فضلا عن قدرة "التجمع الوطني" على الحد من برامج الرئيس الخارجية والدفاعية في حال تم تعيين وزيري خارجية ودفاع من خطه السياسي.
حكومة ائتلافية
يأمل معسكر ماكرون لأن تفضي الانتخابات إلى برلمان من دون أغلبية، تخوله أن يتمكن من تشكيل ائتلاف مع المعتدلين من اليسار واليمين. وفي إطار تواصله مع حلفاء محتملين لم يقدم حزب ماكرون مرشحين في 67 دائرة انتخابية يتنافس فيها مرشحو يمين الوسط أو يسار الوسط.
ومنذ خسارته الأغلبية البرلمانية في 2022، سعى ماكرون إلى تشكيل تحالفات في البرلمان على أساس تبادل الأصوات، أو فرض التشريعات بدون تصويت بدلا من عقد حلف مع حزب آخر.
هذا السيناريو قد يحاول حزب التجمع الوطني أو اليسار اعتماده، في حال عدم تحقيق الأغلبية، لكن حكومة أقلية من اليمين المتطرف أو اليسار، قد تخسر في تصويت على طرح الثقة، وهذا بالتحديد ما يدركه بارديلا، الذي أعلن أنه سيرفض أن يكون رئيسا للحكومة ما لم يحصل على أغلبية مطلقة.
حكومة "تكنوقراط" تمهيدا لانتخابات جديدة
هذا، ويتمثل خيار آخر في تعيين ماكرون لحكومة تكنوقراط يمكن أن تدعمها جميع الأحزاب.
وفي الصدد، يشير خبير العلوم السياسية في مركز إميل دوركهايم في بوردو كامي بيدوك إلى إيطاليا كمثال حيث شكل رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق ماريو دراغي في العام 2021 حكومة وحدة وطنية عندما كانت إيطاليا تشهد حالة اضطراب. ودامت الحكومة سنة ونصف سنة.
وقال بيدوك إن ماكرون قد يقرر أيضا ترك الحكومة الحالية برئاسة غابرييل أتال المنتمي لحزبه بصفة حكومة تصريف أعمال لعام، ويمكنه بعد ذلك الدعوة لانتخابات جديدة. وسيكون لهذا القرار فائدة ضمان الاستمرارية خلال الألعاب الأولمبية (26 تموز/يوليو – 11 آب/أغسطس) عندما تكون أنظار العالم منصبة على فرنسا.
ومن غير المؤكد بتاتا ما إذا كان اليمين المتطرف أم اليسار سيدعم مثل هذه الخطوة التي من شأنها أن تسمح لماكرون بربح الوقت لإدخال تغييرات على طريقته في الحكم.
الاستقالة كخيار "جذري"
وسيكون السيناريو الأكثر دراماتيكية استقالة ماكرون إذا واجه احتمال إزاحته من اليمين المتطرف أو اليسار. ففي الوقت الحالي يشير المعسكران إلى أنه بدلا من العمل مع الرئيس على إخراج فرنسا من الشلل السياسي، فإنهما سيضغطان عليه للتنحي.
ومن جانبها، حذرت لوبان المتوقع أن تسعى لخلافة ماكرون في الانتخابات الرئاسية العام 2027، من أنه "لن يكون أمامه خيار سوى الاستقالة" في حال حدوث "أزمة سياسية." ولكن تعهد ماكرون البقاء في منصبه إلى غاية نهاية ولايته الثانية في 2027 وذلك مهما كانت نتيجة الانتخابات.
ولا يقتصر القلق من نتيجة هذه الانتخابات على الفرنسيين، بل هي تثير مخاوف في الخارج أيضًا. وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفن هيبشترايت "بعد الانتخابات، سنرى كيف تتطوّر علاقاتنا"، واصفًا فرنسا بأنّها "الشريك الأهم والأقرب في أوروبا".