الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق 19 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
فن ومنوعات

إخاء شعراوي يكتب: "جودر".. "وثيقة درامية" تشهد على ريادة الدراما المصرية

الرئيس نيوز

-        جذب الأطفال لتراثنا بعدما أخذتهم الفانتازيا الأجنبية

-        أعجب الشباب لسرعة إيقاعه وأحبه كبار السن بروح "النوستالجيا"

بلغني أيها الطفل الفصيح.. ذو القلب الصريح .. والعقل الرجيح

.. إنه كان ياما كان، في سالف العصر والأوان، ممثل موهوب، وفنان محبوب،

اسمه ياسر جلال،

ظل يبحث عن عمل فني جيد يقدمه للجمهور، ليجعله مسرور،

ولأنه صاحب رؤية فنية ثاقبة، بحث في ذكرياته، ليستعيد أسماء من تعاون معهم في بداياته،

فوجد مؤلف مسرحي نميس، اسمه أنور عبد المغيث، لديه مشروع فني نفيس، مستوحى من التراث الأدبي الغالي العزيز، فحولوه إلى واقع تشاهده الآن بمسلسل "جودر"، ليأخذنا إلى عالم من الخيال الشيق الممتع اللذيذ.

هكذا كانت إجابتي على سؤال طرحه طفل يتراوح عمره بين 10 إلى 12 عام، بعدما لمست عشقه لمسلسل "جودر"، الذي عرض جزءه الأول خلال موسم دراما رمضان 2024، وحقق نجاحا لافتا على المستويات كافة.

بوستر مسلسل “جودر”

فحقيقة يمكن الجزم بأن نجاح مسلسل "جودر" لم يضاهيه نجاح أي مسلسل أخر خلال السنوات الأخيرة، من ناحية الجودة والقيمة وتفاعل الجمهور بجميع أجياله ومراحله العمرية، وآراء النقاد وكافة من شاهد المسلسل.

فعندما سألني الطفل، (هو إزاي مش بيعملوا مسلسلات حلوه زي كده على طول، وليه المسلسل مش 30 حلقة؟)، بدأت أفكر جديا في إجابة تليق بشغف طفل عشق هذه النوعية من الدراما الراقيه، وبعد ثوان من التفكير، كانت إجابتي هي الموجودة في الفقرة الأولى من المقال.

ابتسم الطفل معتبرا أنني أروي له حدوته، ثم علق متسائلا (طيب الجزء التاني هيتعرض أمتى بقى!).

فأجبته، ثم التفت سارحا في عالم من الخيال داخل حكاية "جودر المصري" لأستكشف عالمه وأدقق في تفاصيل المسلسل الأكثر نجاحا في السنوات الأخيرة.

بالطبع استطاع مسلسل "جودر" أن يعيد للأذهان النجاحات التي كانت تحققها أعمال "ألف ليلة وليلة"، ولا أخفيك سرا، فإن إتقان العمل قد يجعله في مقدمة الأعمال التي تناولت حكايات ألف ليلة وليلة على مدار تاريخ تقديمها في الدراما، خاصة مع الاهتمام بجميع التفاصيل، بداية من اختيار أبطال العمل، ومرورا بالسيناريو والحوار العامي الشيق الرشيق، وصولا إلى مستوى الإخراج والتصوير والديكورات والملابس.

فالواقع أثبت إن عناصر العمل كانت على القدر الذي يضعه في المقدمة جماهيريا ونقديا،  بجانب القيمة التي قدمها "جودر" برسائل إيجابية عن الصراع بين الخير والشر، ورسائل أخرى تتعلق بالحياة الإنسانية بكل تفاصيلها، وتناسب الأزمنة كافة، وأظن إنه إذا عرض "جودر" بعد مائة عام من الآن سيتناسب مع العصر.

السيناريو تنقل بين الأزمنة والأمكنة بسلاسة ولم يشعر المشاهد بفجوة

على مستوى السيناريو، نجد الكاتب المسرحي المبدع أنور عبد المغيث، يتنقل بالمشاهد في سلاسة بالغة من زمن إلى زمن، دون أن يشعره بفجوة زمنية، ويرجع ذلك إلى تناسق الأحداث وترتيبها بحبكة درامية ممزوجة بالتشويق، أما على مستوى الحوار، فتسمع لهجة عامية "رشيقة" تتناسب مع الجمهور المتلقي في أي زمان ومكان، فلا هي "عامية الشارع" (السوقيه) كما يصفها البعض، ولا هي "الفصحى الصريحة".

الحوار العامي كان مناسبا لجميع الأزمنة والأعمار 

كان الحوار راقيا مليء بالعبر والحكم والأمثال المأخوذة عن التراث، يفهمه كافة الأجيال بسهولة ويسر، ما أسهم في جذب أجيال جديدة لمتابعة المسلسل، إذ أخذهم في عالم من الخيال الممزوج بالإثارة والتشويق حول قصة بطل من تراثنا، يأخذهم من أفكار البطل الذي عهدوه في نماذج غربية (هيرو وسوبر مان) وغيرهم من النماذج الخيالية الغربية البعيدة عن أفكارنا، ليؤكد مسلسل "جودر" إن التراث الأدبي العربي مليء بالأعمال التي تفوق خيالهم وتتخطى النماذج التي يصدرها الغرب، وبذلك يفكك "جودر" حالة ارتباط هذه الأجيال بالأعمال الغربية التي لا تتناسب مع مجتمعاتنا، لأسباب لسنا في مجال للحديث عنها الآن.

سرعة إيقاع وجودة في تدقيق كافة التفاصيل

في تتابع أحداث مسلسل "جودر" لن تجد مشهد واحد لا داعي لوجوده، ولن تشاهد شوت واحد ليس في مكانه الصحيح، فالأحداث داخل المسلسل دسمة، لا تشعرك بالملل لحظة واحدة، وذلك يرجع لاكتمال التفاصيل التي لا تحتوي على زيادة ولا نقصان، ما أشعر المشاهد بالتشويق والإثارة طوال الأحداث، وجذبه لمتابعة المشاهدة من البداية للنهاية.

ذكاء اختيار ضيوف الشرف

إخراجيا، كان اختيار المبدع إسلام خيري موفق للغاية، خاصة بعدما نجح في مسلسل "جت سليمة" العام الماضي، وهو العمل الذي يتنقل بين عدة أزمنة في إطار فانتازي كوميدي ولاقى العمل إشادات واسعة.

ليؤكد المخرج إسلام خيري على قدراته، ببصمة إبداعية جديدة في مسلسل "جودر" بكافة تفاصيله منذ التجهيز وحتى خروج العمل إلى النور وعرضه، إذ اختيار فريق عمل مناسب جدا لتقديم عمل فني على قدر كبير من الجودة، فكل شخصية تناسب الدور الذي تلعبه في الأحداث، كما أن اختيار ضيوف الشرف كان على قدر كبير من الاحترافية والذكاء، ما ساهم في استفادة العمل من ضيوف الشرف، كما استفادوا هم من المشاركة بالعمل، ولو بتقديم مشهد واحد فقط، وهذا ما ذكرته الفنانة نادية شكري، التي أكدت في أكثر من مناسبة، إن ظهورها بمشهد واحد فقط في مسلسل "جودر" إضافة لها، فضيوف شرف "جودر" قدموا مشاهدهم بإتقان وحب، ظهر جليا خلال العرض على الشاشات، وانعكس على المشاهد، مما أظهرهم كأبطال.

جرافيك وديكورات بعيدة عن المبالغة 

نجح المخرج إسلام خيري وفريقه، في التنقل بين الأزمنة والأمكنة بسرعة مذهلة، ومن أقصر الطرق، فلم يبالغوا في الجرافيك والأحداث، ولم يلجأوا للمط والتطويل دون داعي، كما أن اختيارهم لأماكن التصوير والديكورات والملابس، كان على قدر عال من التوفيق، هذا بالإضافة إلى الجرافيك المتقن، والاستعراضات الإبداعية الغير تقليدية، فجميعها عناصر جذب ساهمت في خروج المسلسل بأفضل صورة للجمهور.

 هنا لن نقييم أداء النجم ياسر جلال، ولا أبطال المسلسل الآخرين الذين،ظهروا جميعا في أفضل صورة وأداء، ومن بينهم نور، ياسمين رئيس، أحمد فتحي، وليد فواز، وياسر الطوبجي، وآخرون.

فحديثنا فقط عن العمل الذي لمس قلوب الجميع، ونجح في جذب أجيال مختلفة لمشاهدته والإشادة به، بل وانتظار الجزء الثاني منه في بلهفة وتشوق شديد (على أحر من الجمر).

فالأطفال عشقوا المسلسل، وتابعوه بشغف يضاهي عشقهم لأعمال الفانتازيا الأجنبية "التافهه"، كما أحبه جيل الشباب بمختلف أعمارهم لما ميزه من سرعة إيقاع للأحداث بما يتناسب مع سرعة إيقاع الواقع الذي نعيشه فلم يشعروا بالملل من المشاهدة، وبالطبع عشقه كبار السن، لما لمسوه من حالة "نوستاليجيا" - حنين إلى الماضي - الذي عاشوه لسنوات طويلة في متابعة أعمال "ألف ليلة وليلة".

يحمل نجاح مسلسل "جودر" شركتي "أروما" و"ميديا هب" مسؤلية كبيرة لخروج الجزء الثاني من العمل بنفس القدر من الجودة، خاصة بعد أن رفع العمل سقف طموحات الجمهور والنقاد على حد السواء، في هذه النوعية من الدراما المأخوذة عن التراث الأدبي العربي، خاصة بعدما أثبت العمل أن القيمة والجودة هم الأهم والأبقى، وليس البحث عن نجاح لحظي، ينتهي بمجرد انتهاء عرض بعض الأعمال الدرامية سريعة النجاح سريعة الاختفاء.

لذلك ننتظر الجزء الثاني من "جودر" بشغف كبير.

فما أثق به إن مسلسل "جودر" أصبح "أيقونة درامية" ستعيش لسنوات طويلة، وما اعتقده أن العمل سيصبح احدى الروائع الدرامية المصرية والعربية كـ "وثيقة درامية" تشهد على تاريخنا الكبير في صناعة الدراما وتوثقه للأجيال الجديدة وتثبت أننا كنا ولازلنا في المقدمة.

أما ما أتمناه ألا يتوقف "جودر" عند الجزء الثاني فقط، وأن يستمر لسلسلة درامية جديدة تعيد إلينا الشغف الدرامي، وتضعنا على مسافة أبعد من أقرب منافسينا في صناعة الدراما التاريخية.