كيف تجر إسرائيل الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية؟
سُئِلَ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنیاهو ما إن كان يتفق مع مؤتمر “انتصار إسرائيل”، الذي دعا للطرد الجماعي للفلسطينيين من غزة، فقال إنَّ وزراء حكومته الذين حضروا المؤتمر “يحق لهم إبداء آرائهم” وكالعادة، كان ذلك مضللًا فقبل أشهر فقط، أفادت تقارير بأنَّه كلف رون دارمر، وهو أحد أقرب مساعديه، ببحث سبل “تقليص” سكان غزة.
وكانت الفكرة، وفقًا للمراسل المخضرم لوسائل الإعلام الغربية بالشرق الأوسط، ديفيد هيرست، هي تجاوز مقاومة الدول العربية والولايات المتحدة وأوروبا لموجة جماعية جديدة من اللاجئين من خلال فتح البحر كبادرة إنسانية.
وأشارت صحيفة إسرائيل هايوم الإسرائيلية، التي حصلت على نسخة من الخطة، بالقول: “ظاهرة اللاجئين في مناطق الحرب أمر مقبول وقد غادر عشرات الملايين من اللاجئين مناطق الحروب حول العالم خلال العقد المنصرم فقط، من سوريا وحتى أوكرانيا. وتبيَّن أنَّ جميعهم بات لديهم عناوين في البلدان التي وافقت على استقبالهم كبادرة إنسانية”.
وأضافت: “فلماذا قد تكون غزة مختلفة؟… والبحر مفتوح أيضًا أمام الغزيين وتفتح إسرائيل، بإرادتها، الممر البحري وتجعل الفرار الجماعي إلى البلدان الأوروبية والأفريقية ممكنًا” ولا توجد أي مؤشرات على أنَّ نتنياهو تخلّى عن خطته لدفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين لركوب القوارب، ولا على أنَّ الجيش يقاوم هذه الأوامر، على الرغم من التوترات الكثيرة الموجودة في حكومة الحرب.
ومع أنَّه لا توجد خطة مقنعة بخصوص اليوم التالي للحرب، يبدو أنَّ هنالك إجماعًا على إبقاء كامل سكان غزة في الخيام مُعتمِدين على المساعدات التي تتحكم بها إسرائيل وحدها.
المجاعة والنفي
تمضي الأمور وفق ما هو مخطط. فبعد 5 شهور من الحرب، استنفد 1.1 مليون نسمة -هم نصف السكان- بصورة تامة إمداداتهم الغذائية ويعانون من جوع كارثي. وهذا هو أكبر عدد من الأشخاص على الإطلاق يُسجَّلون باعتبارهم يواجهون الجوع الكارثي وفق “التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي” وتُعَد المجاعة أشد حدة في محافظتيّ غزة الشماليتين، حيث لا يزال نحو 300 ألف شخص عالقين.
كيف تجر إسرائيل أمريكا إلى حرب إقليمية؟
يمكن وقف الأمر في غضون 24 ساعة بالنظر إلى حجم المساعدات التي تنتظر على حدود غزة. فآلاف الشاحنات متوقفة في الجانب المصري من معبر رفح، في حين أنَّ حمولة سفية كاملة من المساعدات من تركيا عالقة في ميناء أسدود الإسرائيلي منذ أشهر.
ولكن لا يوجد أي قدر من التحذيرات المروعة من جانب الأمم المتحدة والبيت الأبيض، ولا كذلك قضية الإبادة المنظورة أمام محكمة العدل الدولية، كافٍ لدفع نتنياهو للإفراج عن المساعدات المتكدسة على حدود غزة. بل ويتحدث قادة العالم كما لو أنَّه لا يوجد مَن هو مسؤول عن عنق الزجاجة القائم عند الحدود، كأنَّ الأمر يحدث من تلقاء نفسه.
ويُعَد تقييد تدفق المساعدات سياسة يتبنّاها أعضاء الكنيست بيني جانتز وغادي آيزنكوت ووزير الدفاع يوآف جالانت. والمجاعة الجماعية هي وسيلة مُجرَّبة لدفع الرعايا المتمردين للخروج إلى المنفى. وكما هو الحال في كثير من الأحيان في تاريخ الاستعمار، كانت بريطانيا هي أول مَن جرَّب تلك الوسيلة.
وقد صفَّق الرئيس جو بايدن، لكن لا بدَّ أنَّه كان يشعر بتوتر داخلي حين ذكّره رئيس الوزراء الأيرلندي، ليو فارادكار، بأوجه الشبه بين ما يحدث الآن على مرأى منه والمجاعة الأيرلندية التي وقعت في القرن التاسع عشر.
فقال فارادكار، في حديثه خلال احتفال نبات النفل (وهو رمز لأيرلندا) في البيت الأبيض بمناسبة “عيد القديس باتريك”: “سيدي الرئيس، كما تعلم، يشعر الشعب الأيرلندي بانزعاج شديد بسبب الكارثة التي تقع على مرأى منا في غزة. حين أجوب العالم، كثيرًا ما يسألني القادة لِمَ يُكِنُّ الأيرلنديون كل ذلك التعاطف للشعب الفلسطيني، والجواب بسيط: نرى تاريخنا في أعينهم. قصة نزوح، ونزع ملكية، وهُوية وطنية موضع تشكيك أو إنكار، وتهجير قسري، وتمييز، والآن جوع” ووجَّهت مجموعة من مؤرخي “المجاعة الكبرى” في رسالة مناشدة لـ”ضمير أمريكا الأيرلندية”.
وجاء في الرسالة: “نطلب من الأيرلنديين الأمريكيين بصفتهم مواطنين، وبصفتهم أعضاءً في الجمعيات الثقافية والخيرية، وبصفتهم زعماء سياسيين، أن يستخدموا نفوذهم لدرء مجاعة شديدة بقدر شدة تلك التي واجهها أسلافهم. ولفعل ذلك، من الضروري أن تُوقِف الولايات المتحدة تسليح إسرائيل، وأن تفرض ضغوطًا على إسرائيل لوقف عملها العسكري ورفع حصارها عن غزة، وأن تُحجِم عن استخدام حق النقض (الفيتو) بمجلس الأمن الدولي بخصوص فلسطين، وأن تُعيد تمويل الأونروا، وهي الوكالة الأفضل تجهُّزًا لتقديم المساعدة، وأن تتصرَّف كوسيط نزيه للتوصل إلى تسوية سياسية توافقية بين إسرائيل وفلسطين”.
رسالة قوية
هذه القائمة بعيدة كل البعد عن جدول أعمال بايدن حتى الآن، لدرجة أنَّ الأمر يتطلَّب سياسيًا مرنًا للغاية كي يُصفِّق ويومئ برأسه لفارادكار في حين يمضي قدمًا ببيع مقاتلات F-35 لإسرائيل.
وبعيدًا عن المؤتمرات الصحفية العلنية، أفادت تقارير بأنَّ بايدن صاح وأطلق اللعنات حين أُبلِغَ في اجتماع خاص بالبيت الأبيض بتراجع أرقامه في استطلاعات الرأي بولايتيّ ميشيغان وجورجيا على خلفية تعامله مع الحرب في غزة، قائلًا إنَّه يعتقد أنَّه يفعل ما هو صواب بالرغم من التداعيات السياسية ولكن هناك رسالة أقوى من ذلك خلف أوجه التشابه بين المجاعتين.
فكما يعلم بايدن جيدًا من تاريخه الشخصي -وهو سليل أحد الناجين من المجاعة الكبرى- فإنَّ القمع البريطاني لم يطفئ نيران التمرد، بل ألهبها.
وأرست المجاعة الكبرى جذور النضال من أجل الاستقلال، بالمعنى الحرفي للكلمة، في مناطق أيرلندا التي كانت الأشد تضررًا. فكانت بلدة سكيبرين، الواقعة أقصى الطرف الغربي لمنطقة ويست كورك، واحدة من المناطق الأشد تضررًا من المجاعة بين عامَي 1845 و1852.
وأخرجت المنطقة لاحقًا ثلاثة من الشخصيات الرائدة لـ”انتفاضة الفصح” عام 1916 هم كل من: مايكل كولينز، وتوم باري، وجيرمايا أودونوفان روسا.
وبحلول عام 1916، كان قليلون على قيد الحياة ممَّن كانوا يتذكرون المجاعة، لكنَّ ذلك لم يكن مهمًا كثيرًا. فأسلافهم كانوا يتذكرون.
والأمر نفسه ينطبق على القضية الوطنية الفلسطينية اليوم؛ إذ انتعش ونشط الكفاح من أجل إقامة دولة فلسطينية، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، بفعل المجاعة الجماعية في غزة. وتداعيات ما يحدث أمام أعيننا اليوم قوية بما فيه الكفاية لتأجيج المقاومة والنصر لأجيال قادمة.
لكنَّ آلة الدمار الشامل التي يُشغِّلها نتنياهو ليست في مزاج يسمح لها بالتخلّي عن المحاولة. في الواقع، لقد بدأت للتو.
خطة قيد التنفيذ
اندلعت موجة من القتال في المحافظات الشمالية ومعركة جديدة في مستشفى الشفاء منذ رفض زعماء العشائر في غزة خطط توزيع المساعدات تحت إشراف إسرائيل وتشكيل نموذج أولى يشبه نظام “فيشي”.
والأمران مرتبطان؛ إذ نظَّمت العشائر “لجانًا شعبية” لضمان تسليم قوافل المساعدات لمراكز التوزيع التابعة للأونروا.
في الواقع، كانت فصائل مختلفة تحمي القوافل، بما في ذلك حركتا فتح وحماس، وكان التسليم نجاحًا كبيرًا، إذ كانت أول عملية تتم عبر الطريق البري منذ أسابيع.
لكنَّها كانت أيضًا ضربة كبيرة لإسرائيل، أولًا من خلال إظهار أنَّ حماس لا تزال مُسيطِرة وقادرة على التنظيم في الشمال، وثانيًا لأنَّها كانت تعني أنَّ إسرائيل فقدت السيطرة على توزيع المساعدات مؤقتًا، وهي نقطتها الرئيسية للضغط على السكان.
وبناءً على ذلك، استهدفت القوات الإسرائيلية الرجل المسؤول عن تنسيق القوافل، مدير عمليات الشرطة فايق المبحوح، وقتلته بعد محاصرته داخل مستشفى الشفاء.
أعقب ذلك غارات جوية، وفي يوم الثلاثاء 19 مارس، قُتِلَ ما لا يقل عن 23 فلسطينيًا مسؤولين عن توفير الأمن لإمدادات المساعدات. وهذا أمر غير حصيف للغاية تفعله إسرائيل إذا ما كانت تحاول إنشاء صورة ما من السيطرة المدنية حين تنتهي الحرب.
بإعلانها الحرب على العشائر التي كانت تحاول التحدث معها على مدار الأشهر الخمسة الماضية، تُوحِّد إسرائيل كامل سكان غزة خلف الفصائل الفلسطينية ولا يوجد نقص في القدرة التنظيمية في غزة، وهي الآن موحدة ضد إسرائيل.
باتت خطة نتنياهو واضحة الآن: إطالة أمد الحرب قدر الإمكان، وإغلاق كافة الحدود البرية انتهاءً برفح، وجعل البحر هو طريق الفرار الوحيد للفلسطينيين من غزة وبعيدًا عن كلمات الإدانة الحادة، عمل بايدن والاتحاد الأوروبي حتى الآن لمصلحته. ويجرى بناء البنية التحتية لمثل هذه الخطة أمام أعيننا الآن، بمساعدة واشنطن الراغبة بذلك.
فيجري بناء “رصيف بحري” لاستقبال المساعدات مباشرةً في غزة، يقول بايدن إنَّه سيكون قادرًا على “استقبال سفن شحن كبيرة تحمل الغذاء والماء والأدوية والملاجئ المؤقتة”.
وقال إنَّ الهدف هو السماح “بزيادة كبيرة في كمية المساعدات الإنسانية التي تدخل غزة يوميًا” ويتظاهر بايدن كما لو أنَّ الميناء كان فكرته وجاء رد فعل على المجاعة. لكنَّ الأمر لا هو هذا ولا ذاك.
وصرَّح مصدر دبلوماسي كبير لصحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية بأنَّ نتنياهو أطلق خطة الطريق البحري عبر قبرص.
وقال المصدر: “أخذ نتنياهو المبادرة لإقامة مساعدة إنسانية بحرية للسكان المدنيين في قطاع غزة بالتعاون مع إدارة بايدن”.
ويُعَد التاريخ الذي حدث فيه ذلك أهم من هُوية الشخص الذي أعدَّ الخطة. فوفقًا لهذا التقرير، لخص نتنياهو استراتيجيته للرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليدس في 31 أكتوبر الماضي، بعد ثلاثة أسابيع فقط من هجوم حماس، وناقش الأمر مرة أخرى مع بايدن في 19 يناير الماضي.
بعبارة أخرى، لم يكن الرصيف العائم رد فعل على المجاعة الوشيكة؛ بل كان جزءًا من التخطيط الذي أدَّى إليها وانظروا أين يُبنى الرصيف؟! يوجد بالفعل ميناء أكبر وجيد في مدينة غزة، لكنَّ هذا لن يناسب هدف نتنياهو.
ويظهر الميناء الجديد عند نهاية الطريق الذي شقّه الجيش الإسرائيلي عبر منتصف قطاع غزة ليفصل بين الشمال والجنوب. وفي حين ستبني القوات الأمريكية الرصيف، سيُشرِف الجيش الإسرائيلي على المساعدات القادمة عبره ويفتشها.
وبينما تشق السفينة التي ستبني الرصيف البحري طريقها ببطء نحو غزة، سيستغرق الأمر شهرين قبل إنشاء الرصيف وتشغيله، وتقول مصادر بالبحرية الأمريكية إنَّ تفاصيل طريقة تدفق المساعدات إلى غزة من البحر سيتم التوصل إليها لاحقًا، والسبب وجيه.
فالطريق والميناء سيكونان تحت سيطرة جيش الاحتلال، وهو نفس الجيش الذي أغلق نقاط الدخول الموجودة واستهدف الفلسطينيين الذين يحاولون تأمين شاحنات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة. وأي شخص يعرف المنطقة وتاريخ الصراع يجب أن يكون مدركًا لاستخدام كلمة “مؤقتًا” عند تطبيقها على بنية تحتية من هذا النوع.
فجدار الفصل في الضفة الغربية المحتلة كان من المفترض أن يكون رد فعل مؤقتًا على الانتحاريين. وكان حصار غزة من المفترض أن يكون مؤقتًا. والآن يُطلَب منا أن نتقبَّل ميناءً في غزة تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي باعبتاره بنية مؤقتة للتعامل مع المجاعة.
وإن كان على أحدهم أن يتعقَّل سريعًا تجاه هذه الخطط، فيجب أن يكون حكومات قبرص واليونان وإيطاليا، التي ستكون وجهات لأزمة اللاجئين الجديدة التي تخطط لها إسرائيل ويوشك الاتحاد الأوروبي على التورط بالسماح لإسرائيل بوقف تدفق المساعدات الدولية إلى غزة عبر كل الحدود البرية، ثُمَّ المساعدة في إقامة البنية التحتية اللازمة للموجة العارمة التالية من اللاجئين. ففي النهاية، نجح الأمر في سوريا، ويمكن أن ينجح في غزة.
وإذا لم تنتبه بروكسل اليوم لخطة الحكومة الإسرائيلية بشأن غزة، فإنَّها ستنتبه قريبًا جدًا حين تبدأ القوارب المليئة بالفلسطينيين في الوصول إلى جزر اليونان وشواطئ إيطاليا لكن هناك أمر آخر يجب أن تدركه واشنطن. فقد استمعت إلى نتنياهو حين أدلى في عام 2002، بصفته مواطنًا عاديًا، بشهادته أمام الكونغرس قائلًا إنَّ غزو العراق سيكون “خيارًا جيدًا”.
واليوم، يُوحِّد غزو إسرائيل لغزة العالم العربي ضد إسرائيل. فالحوثيون اليوم يحظون بإعجاب العرب في مختلف أرجاء الشرق الأوسط بسبب حملتهم ضد حركة الشحن الغربي في البحر الأحمر. لكنَّ السياسة الأمريكية لا تزال خاضعة لقيادة نتنياهو.
وهنالك مزيج قوي وخطير يختمر الآن في قلوب العرب في مختلف أرجاء العالم: الغضب والشعور العميق بالإذلال والذنب. وهذه وصفة لحرب وجودية لم يشهد جيل الإسرائيليين الحالي مثيلًا لها ولا رغبة له فيها.
وإذا ما تبع بايدن إسرائيل في هذا الطريق، سيخسر الانتخابات المقبلة. فالغضب في صفوف الأمريكيين العرب مرتفع للغاية. غير أنَّ هذا ليست له تداعيات استراتيجية تُذكَر على نحوٍ جعل الرئيس الديمقراطي يتصرَّف بطريقة بالغة السوء.
لكن إذا ما سمحت الولايات المتحدة لإسرائيل بتحويل غزة إلى مخيم لاجئين كبير يُجبِر الفلسطينيين تدريجيًا على ركوب القوارب، ستكون لذلك تداعيات استراتيجية هائلة تتقزَّم أمامها تداعيات غزو العراق الذي حُكِمَ عليه بالفشل.
لم تعد إسرائيل رصيدًا استراتيجيًا وشريكًا عسكريًا للولايات المتحدة بعد الآن. بل هي بذرة، وحاضنة، وصوبة إنبات لحرب إقليمية وإذا ما حدث ذلك، فإنَّ الولايات المتحدة ستستحق كل ما ستواجهه.