الرؤساء والفنانون.. الفن سلاح "ناصر" الناعم لثورة يوليو 52 (1-6)
تمتد علاقة الفنانين بعالم السياسة لزمن بعيد، قد يسبق تحول مصر إلى جمهورية في أعقاب ثورة 52، إلا أنها ظهرت جلية وتبلورت ملامحها في عهد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، إذ شهدت هذه الفترة الكثير من الأحداث التي توثق علاقة الفن بالسياسة، كما تكشفت عن الكثير من المعلومات حول علاقة الرؤساء بالفنانين.
واستمرت العلاقة بين الرؤساء وعالم الفن في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، والتي شهدت أيضا علاقات وثيقة بين الرئيس وبعض أهل الفن، حتى وصلنا لعهد الرئيس الراحل حسني مبارك، وبدأت العلاقة تتحول لمنحنى جديد يميل للابتعاد بين الرئيس والوسط الفني في بداية حكمه، إلا فيما ندر.
وبينما شهدت السنوات التالية لرحيل الرئيس الأسبق حسني مبارك، ظهور كبير لأهل الفن في عالم السياسة، ما أحدث تحولا جديدا في مسار علاقة الفنانين بالرؤساء، خاصة في عهد الرئيس الأسبق محمد مرسي.
وتجددت العلاقة وظهرت جليا في فترة الحكم الانتقالية للرئيس عدلي منصور، ومن بعدها على مدار سنوات حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي.
ومن واقع ما سبق، فقد شهدت علاقة الرؤساء بالفنانين، تحولات عدة في مراحل مختلفة، إذ تميزت العلاقة بين السلطة والفن في سنوات، وساءت في أخرى.
وما بين طبيعة كل رئيس وظروف حكمه، يرصد “الرئيس نيوز”، تحولات العلاقة بين الرؤساء والفنانين في مراحل زمنية متعاقبة، والكواليس التي رواها أصحابها، أو ذكرت في كتب ومذكرات وبرامج تليفزيونية.
وفي مذكراتها التي لم تنشر - حصل “الرئيس نيوز” على جزء منها- روت الفنانة فاطمة رشدي عن أسرار وكواليس علاقتها بعالم السياسة، وقصر الملك فاروق ورواده، وتفاصيل أخرى كثيرة بأجهزة أمنية وسياسية في مراحل متتالية خلال فترة توهجها الفني، وما تلاها من مراحل سياسية أخرى منها فترة حكم الرؤساء جمال عبدالناصر وأنور السادات، والذي دفعها لقائهما بهما بأن تقرر تسجيل مذكراتها بصوتها.
وأبرز ما ميز علاقة الفنانين بالحكام قبل ثورة 52 هو أنها كانت علاقات مرفوضة، بحكم البروتوكولات والقواعد التي تحكم الأسرة الملكية، إلا أنها ومع بداية الجمهورية في مصر بدأت تشهد تحولا كبيرا، خاصة مع عقلية جمال عبدالناصر التي كانت تؤمن بدور الفن وتأثير الفنانين في المجتمعات وعلى الشعوب.
الترويج للثورة
وبدأ الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في مد أواصر التواصل مع الفنانين، واستخدامهم في تدعيم الجمهورية والترويج للثورة، لتتحول السنوات التي تلت ثورة يوليو وحتى اليوم، إلى فترة توثيق العلاقة بين الرؤساء والفنانين، وهو ما يظهر جليا في الكثير من الروايات التي أتيحت للنشر عن علاقة الرؤساء بالفنانين، والكواليس المتعلقة بلقاءات جمعت بين رؤساء وفنانين، رواها الفنانون بأنفسهم أو مقربون منهم، أو ذكرت في العديد من الكتب والمذكرات.
وبعد ثورة 23 يوليو مباشرة، بدأ الضباط الأحرار ومعهم الرئيس محمد نجيب آنذاك في مد أواصر التواصل مع بعض الفنانين، وكان الأخير دائما ما يكرم الفنانين، ومنهم على سبيل المثال الفنان أنور وجدي، وجمعته لقاءات عديدة مع الفنان محمد فوزي، وظهر في لقطة وهو يحمل الفنانة هالة فاخر أيام طفولتها في كواليس مسرحية لأبيها الفنان القدير فاخر فاخر.
كما حرص الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على تدعيم علاقته بالفنانين بشكل كبير، وكان يؤمن جيدا بدور الفن والفنانين في التأثير على المجتمع والجماهير، ولذلك عمل على توطيد علاقته جيدا بنجوم عصره من الفنانين أصحاب الشعبية الكبيرة، وبرغم ذلك شهدت فترة حكمه بعض الأزمات مع فنانين لأسباب مختلفة سنرصدها في الأسطر التالية.
كان عبد الحليم حافظ هو أشهر من ارتبطوا بعلاقة قوية مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وأطلق عليه لقب "صوت الثورة"، بعد غناء مجموعة من الأغاني الوطنية التي تروج لثورة يوليو وتمدح قياداتها مثل "ناصر يا حرية"، "ثورتنا الوطنية"، "بلدي يا بلدي"، و"صورة"، كما قدم حفلات حضرها جمال عبد الناصر بنفسه، كما كانت أم كلثوم هي الفنانة الأكثر قربا من عبدالناصر، وغنت له عقب التنحي "ابق فأنت الأمل"، وأقامت حفلات خيرية لصالح الجيش عقب هزيمة 1967.
مع قيام ثورة يوليو 1952 بات التواصل مع الفنانين نهجًا لرؤساء مصر لم يتغير حتى الآن، وإن اختلفت الوسائل والأهداف، ومع وجود مطرب مثل عبد الحليم حافظ وشعبيته العربية الجارفة، كان طبيعيًا أن ينحاز جمال عبد الناصر إلى الغناء أكثر من التمثيل الذي تركه، في مقابل أغان توثّق مسيرة "ناصر" مع كل حدث، بدءًا من تأميم قناة السويس وأغنية "حكاية شعب"، وصولًا إلى النكسة وأغنية "عدّى النهار"، بل إن عبدالناصر سمح لعبد الحليم حافظ أن يغني في حفل زفاف ابنته.
وبجوار عبدالحليم كان لكوكب الشرق أم كلثوم مساحة خاصة لدى عبدالناصر، فقد كانت مقربة منه، وحرص ناصر على حمايتها من بعض من أرادوا البطش بها بحجة أنها كانت قريبة من الملك فاروق، وغنت له، ونجحت أم كلثوم في أن تبقى الفنانة الأكثر قربا من الزعيم الراحل، ودعمته بشدة وساندته في كثير من المحن، فقد غنت له عقب التنحي "ابق فأنت الأمل"، وأقامت حفلات خيرية لصالح المجهود الحربي بعد نكسة 67.
لقاء السحاب بين عبدالوهاب وأم كلثوم
أيضا كان عبدالناصر سببا رئيسيا في تعاون كوكب الشرق أم كلثوم مع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب في أكثر من عمل، فخلال تكريمه لمحمد عبدالوهاب في عيد العلم عام 64 قال له الرئيس عبدالناصر: "متى سنسمع أغنية تغنيها أم كلثوم بألحانك؟، فردّ عبدالوهاب بالموافقة فورا، ثم أدار عبدالناصر وجهه ووجه نفس السؤال لأم كلثوم، فأعربت عن استعدادها فورا.
بعد هذا اللقاء، تحقق لقاء السحاب بين عبدالوهاب وأم كلثوم في أغنية "أنت عمري" عام 1964، وتلاها 9 أغنيات أخرى هي "على باب مصر" عام 1964، "أنت الحب" في عام 1965، "أمل حياتي" في عام 1965، "فكروني" عام 1966، "هذه ليلتي" في عام 1968، "أصبح عندي الآن بندقية" في عام 1969، "دارت الأيام" في عام 1970، "غدا ألقاك" في عام 1971، و"ليلة حب" في عام 1973.
كان انحياز عبدالناصر للغناء على حساب التمثيل، باعتبار أن الغناء يوثق للثورة ولناصر نفسه، ولكن في نهاية الخمسينيات أدرك أن التمثيل أيضا له شعبية كبيرة في المجتمع، إذ كان في زيارة للمغرب وفوجئ بمواطن مغربي خرج لتحيته، وعندما سمح له بمصافحته همس له المغربي قائلا: "سيدي الرئيس هل يمكن أن توصل سلامي للفنان إسماعيل ياسين".
استوعب عبدالناصر الرسالة جيدا وأدرك أن الفن قوة ناعمة ومؤثرة تغزو العقول، لذا وفور وصوله إلى مصر حقق أمنية المواطن المغربي، وخرجت بعدها سلسلة أفلام "إسماعيل ياسين في الجيش" و"في الأسطول" "وفي البحرية "وفي الطيران"، وكلها كانت تهدف لبث روح الجندية وتحفيز الشباب على الانضمام للجيش.
كما حرص أيضًا جمال عبدالناصر على التواصل مع الفنانين بنفسه، وهو ما يظهر جليا في إجراءه اتصالًا ذات مرة بالفنان فريد شوقي، ليطالبه بالإسراع في تصوير فيلم "بورسعيد" الذي يُجسد مقاومة شعب بورسعيد ضد عدوان 1956.