موضوع خطبة الجمعة اليوم ٨ ديسمبر
يبحث الكثير من المسلمين في جميع أنحاء الجمهورية عن موضوع خطبة الجمعة اليوم ٨ ديسمبر، بعد أن حددت وزارة الأوقاف موضوع الخطبة، وسط مناشدات للأئمة بضرورة الالتزام بالخطبة نصًا أو مضمونًا، وذلك في إطار عملية تجديد الخطاب الديني.
وكانت قد جاءت خطبة الجمعة الماضية الموافقة يوم 1 ديسمبر 2023م، 17 جمادي الأولي 1445هـ، بعنوان «الحذر واليقظة والإعداد في القرآن الكريم»، بتلاوة للقارئ الشيخ محمدي بحيري وخطيبا الدكتور محمد السيد نصار من علماء وزارة الأوقاف.
ومن المقرر أن يؤدي أئمة وخطباء وزارة الأوقاف خطبة الجمعة اليوم ٨ ديسمبر 2023م، 24 جمادي الأولي 1445 هـ، بعنوان «الإيجابية»، في خطبة للدكتور رمضان عبد الرازق عضو اللجنة العليا للدعوة بالأزهر الشريف.
عناصر خطبة الجمعة اليوم ٨ ديسمبر 2023:
أولًا: الإســــــــلامُ دينُ الإيجـــــابيـــةِ.
ثانيًا: ما استحقَّ أنْ يولدَ مَن عاشَ لنفسِهِ.
ثالثًا: صــــورٌ ونمــاذجُ مِن الإيجــــــابيةِ.
نص خطبة اليوم الجمعة الموافق 8 ديسمبر 2023:
الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعدُ:
إنَّ الإيجابيةَ أصلٌ عظيمٌ مِن أصولِ الإسلامِ، وهي ميزةٌ عظيمةٌ ميّزَ اللهُ تعالَى بهَا المسلمَ، فالإسلامُ يدعُو إلى إيجابيةِ الفردِ نحوَ نفسِهِ ونحوَ المجتمعِ، ولا نبالغُ إذا قلنَا أنَّ الإيجابيةَ هي الدينُ، فالدينُ لم يقمْ في أرضِهِ علي السلبيةِ والخمولِ والتقاعسِ والكسلِ، وإنَّمَا قامَ علي الإيجابيةِ، منذُ أنْ خاطبَ اللهُ نبيَّهُ ﷺ فقالَ: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ* وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ* وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ* وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ* وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ* وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ}(المدثر:1-7).
فالإسلامُ يحرصُ على أنْ يكونَ المسلمُ عضوًا فعالًا إيجابيًّا منتجًا، نافعًا لنفسِهِ وأهلِهِ ومجتمعِهِ، فلا يكونُ إمعةً، فَعَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ” لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا وإِن أساؤوا فَلَا تظلموا “. (الترمذي).
وهكذا المسلمُ يرىَ الأملَ دائمًا غيرَ منقطعٍ، وينظرُ إلى الواقعِ وإنْ اشتدَّ عليهِ بإيجابيةٍ وتفاؤلٍ، وفي الحديثِ ” إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ “. (رواه مسلم عن أبي هريرة). قال النوويُّ: “رُوِيَ أهلكُهُم على وَجْهَيْنِ مَشْهُورَيْنِ: رَفْعُ الْكَافِ وَفَتْحُهَا، وَالرَّفْعُ أَشْهَرُ وَمَعْنَاهُ أَشَدُّهُمْ هَلَاكًا. وَأَمَّا رِوَايَةُ الْفَتْحِ فَمَعْنَاهَا هُوَ جَعَلَهُمْ هَالِكِينَ لَا أَنَّهُمْ هَلَكُوا فِي الْحَقِيقَةِ”.(شرح النووي على مسلم).
فالإيجابيةُ تعنِي أنْ يكونَ المسلمُ فيضًا مِن العطاءِ، ثابتًا حينَ تدلهُم الخطوبُ، لا ييأسُ حين يقنطُ الناسُ، ولا يتراخَى عن العملِ حينَ يفترُ العاملون، يصنعُ مِن الشمعةِ نورًا، ومِن الحزنِ سرورًا، متفائلًا في حياتِه، شاكرًا في نعمائِهِ، صابرًا في ضرائِهِ، قانعًا بعطاءِ ربِّهِ لهُ.
إنَّ هناك فرقًا شاسعًا بينَ الإيجابيةِ والسلبيةِ كالفرقِ بينَ الليلِ والنهارِ، والوجودِ والعدمِ. والدليلُ على هذا قولُهُ تعالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَم لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (النحل:76) فقد سمَّى اللهُ السلبيَّ في هذه الآيةِ ” كلاًّ” والإيجابيَّ بـ ” يأمرُ بالعدلِ”.. و”كَلٌّ” أصعبُ مِن سلبي.. لأنَّ سلبِي معناها غيرُ فعالٍ، أما كَلٌّ فمعناها الثقيلُ الكسولُ، وقبلَ هذا فهو “أبكمٌ” لا يتكلمُ ولا يرتفعُ له صوتٌ!! وهذا عبءٌ على المجتمعِ، لأنَّ النظرةَ التشاؤميةَ هي الغالبةُ عليهِ في كافةِ تصرفاتِهِ، وهذه الشخصيةُ ضعيفةُ الفاعليةِ في كافةِ مجالاتِ الحياةِ.
وأمَّا الآخرُ فإنَّهُ ” يأمرُ بالعدلِ” فهو هنَا الشخصيةُ المنتجةُ في كافةِ مجالاتِ الحياةِ حسبِ القدرةِ والإمكانية، فهو يوازنُ بينَ الحقوقِ والواجباتِ (أي ما لهُ وما عليهِ) مع الهمةِ العاليةِ والتحركِ الذاتِي، والتفكيرِ الدائمِ لتطويرِ الإيجابياتِ وإزالةِ السلبياتِ. هل مِن المعقولِ أنْ يتساوَى هذا وذاك؟ لا يستوون!!!
الفرقِ بينَ الإيجابِي والسلبِي
الإيجابِيُّ يفكرُ في الحلِّ، والسلبِيُّ يفكرُ في المشكلةِ!!
الإيجابِيُّ يساعدُ الآخرين، والسلبِيُّ يتوقعُ المساعدةَ مِن الآخرين!!
الإيجابِيُّ يرىَ حلًّا لكلِّ مُشكلةٍ، والسلبِيُّ يرىَ مشكلةً في كلِّ حلٍّ!!
الإيجابِيُّ الحلُّ صعبٌ لكنَّهُ ممكنٌ، والسلبِيُّ الحلُّ ممكنْ لكنَّهُ صعبٌ!!
الإيجابِيُّ لديهِ أحلامٌ يحققُهَا، والسلبِيُّ لديهِ أوهامٌ وأضغاثُ أحلامٍ يبددُهَا!!
الإيجابِيُّ يرى في العملِ أملًا، والسلبِيُّ يرى في العملِ ألمًا!!
الإيجابِيُّ ينظرُ إلى المستقبلِ ويتطلعُ إلى ما هو ممكنٌ، والسلبِيُّ ينظرُ إلى الماضِي ويتطلعُ إلى ما هو مستحيلٌ!!
الإيجابِيُّ يختارُ ما يقولُ، والسلبِيُّ يقولُ ما يختارُ!!
الإيجابِيُّ يتمسكُ بالقيمِ ويتنازلُ عن الصغائرِ، والسلبِيُّ يتشبثُ بالصغائرِ ويتنازلُ عن القيمِ!!
الإيجابِيُّ يصنعُ الأحداثَ، والسلبِيُّ تصنعُهُ الأحداثُ!!
هذا هو الفارقُ بينَ الإيجابِي والسلبِي، فمَا مِن صفةٍ إيجابيةٍ إلّا والزموهَا، وما مِن صفةٍ سلبيةٍ إلّا واجتنبُوهَا!!
إنَّ الناظرَ في سيرةِ الرسولِ ﷺ يرى الإيجابيةَ واضحةً في كلِّ معانِيهَا، مِن يومِ أنْ كان غلامًا يتيمًا إلى حينَ وفاتِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، وكذلك ربَّى أصحابَهُ على معانِي الإيجابيةِ الفاعلةِ، لقد كان يقولُ لهُم:” بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ”. (ابن ماجة). ويقولُ: ” اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ”.(مستدرك الحاكم). ويقول: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ».(مسلم).
وكان يكرَهُ أنْ يرَى الرجلَ سلبيًّا فارغًا بلا عملٍ، وإذا اشتكَى إليه الرجلُ القويُّ قلةَ المالِ، قالَ لهُ: ” اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ”.(أبوداود). وكان يشجعُ عبدَ اللهِ بنَ عمرَ ويقولُ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ، لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» فَكَانَ بَعْدُ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا “.(البخاري)، بل كان يشجعُ الأعمالَ الصغيرةَ ويثيبُ عليهَا. فهذه المرأةُ التي كانتْ تقمُّ المسجدَ فماتتْ، ودفنوهَا دونَ علمِهِ فغضبَ وقَالَ: «أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي» قَالَ: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا. فَقَالَ: «دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهَا» فَدَلُّوهُ، فَصَلَّى عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً عَلَى أَهْلِهَا، وَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنَوِّرُهَا لَهُمْ بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ».(مسلم).
إنَّ مقياسَ الخيريةِ في الناسِ ليسَ أنْ يقدمَ الواحدُ منهُم عملًا عظيمًا، وإنَّما الخيريةُ حين يقدمُ الواحدُ ما هو قادرٌ على أدائِهِ بعدَ استنفادِ جهدِهِ وطاقتِهِ، ولهذا نرَى النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ يستعملُ إيجابيةَ كلِّ صحابِي بما هو قادرٌ عليهِ وبمَا هو أهلٌ لهُ، حتى صارَ كلُّ صحابِي أمةً وحدَهُ، ففي الجانبِ العسكرِي استفادَ مِن فكرِ سلمانَ الفارسِي رضي اللهُ عنه وخلفيتِهِ الحضاريةِ فاقترَحَ الخندقَ، والحبابُ بنُ المنذرِ يقترحُ الوقوفَ على الماءِ يومَ بدرٍ، وآخرُ ينصبُ المنجنيقَ في غزوةِ الطائفِ، وأبو بصيرٍ يخططُ لحربِ عصاباتٍ بعيدًا عن بنودِ صلحِ الحديبيةِ، وأمَّا الجانبُ الاقتصادِيُّ فنرَى ذلك الصحابيَّ الذي يؤرقُهُ كثرةُ أبناءِ المهاجرين والأنصارِ، فينقلُ زراعةَ القمحِ إلى الحجازِ، وعبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ يصفقُ بالسوقِ حتى لا يكونَ عالةً على غيرِهِ!! وفي جانبِ الفكرِ والتربيةِ يسارعُ عبدُ اللهِ بنُ عمروِ بنِ العاصِ لتدوينِ الحديثِ، وزيدُ بنُ ثابتٍ لجمعِ القرآنِ ويسارعُ في تعلمِ العبرانيةِ والسريانيةِ!!
لقد كان مِن النتائجِ المبهرةِ التي ورثتهَا هذه التربيةُ النبويةُ، أنْ خُرِّجَ القادةُ والخلفاءُ والوزراءُ والعلماءُ، وخُرِّجَ الجنودُ والمرابطون، يتسابقونَ في البذلِ والعطاءِ والتضحيةِ والفداءِ، لعلمِهِم أنَّ المرءَ يهيئُ لنفسِهِ مقعدًا في الجنةِ.
عمرو بن الجموح لـ رسول الله هل من قتل اليوم دخل الجنة؟
إنَّ ربيعةَ بنَ كعبٍ الأسلمِي رضي اللهُ عنه يتقدمُ فيقولُ: يا رسولَ اللهِ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ. قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (الترمذي)، وجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ - وهو أعرجٌ- إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قُتِلَ الْيَوْمَ دَخَلَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ:(نَعَمْ) قَالَ: فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أرجعُ إِلَى أَهْلِي حَتَّى أَدْخُلَ الْجَنَّةَ” (صحيح ابن حبان). واستشهدَ فدخلَ الجنةَ مع عرجتِهِ وعذرِهِ.
أختمُ هذا العنصرَ برجلٍ ضربَ أروعَ الأمثلةِ في الإيجابيةِ: “يُروَى أنَّ مسلمةَ بنَ عبدِ الملك كان في جملةٍ مِن الجندِ يحاصرون إحدى قلاعِ الرومِ، وكانت محصنةً، وكانَ الدخولُ إليها صعبًا إلّا مِن نقبٍ فيهَا تخرجُ منهُ أوساخُ المدينةِ، فوقفَ مسلمةُ ينادِي في الجندِ: مَن يدخلُ النقبَ ويزيحُ الصخرةَ التي تحبسُ البابَ ويبكرُ حتى ندخلَ…
فقامَ رجلٌ قد غطَّى وجهَهُ بثوبهِ وقال أنا يا أميرَ الجندِ، ودخلَ النقبَ وفتحَ البابَ ودخلَ الجندُ القلعةَ فاتحين.. وبعدَهَا وقفَ مسلمةُ بينَ الجندِ يُنادِي على صاحبِ النقبِ حتى يكرمَهُ على ما فعلَ، وكان يرددُ: مَن الذي فتحَ لنَا البابَ؟ فما يجيبُهُ أحدٌ! فقال: أقسمتُ على صاحبِ النقبِ أنْ يأتينِي في أيِّ ساعةٍ مِن ليلٍ أو نهارٍ. فطُرِقَ بابُ مسلمةَ طارقٌ ليلًا، فيلقاهُ مسلمةُ مستبشرًا!! أنت صاحبُ النقبِ؟! فقال الطارقُ هو يشترطُ ثلاثةَ شروطٍ حتى تراهُ. قال مسلمةُ وما هي؟ قال: ألَّا ترفعَ اسمَهُ لدى الخليفةِ، ولا تأمر لهُ بجائزةٍ، ولا تنظر لهُ بعينٍ مِن التمييزِ، قال مسلمةُ: أفعلُ لهُ ذلك!! فقال الطارقُ: أنَا صاحبُ النقبِ وانصرفَ، وتركَ جيشَ مسلمةَ ذاهبًا إلى سدِّ الثغورِ في أماكنَ أخرى، ويُذكرُ أنَّ مسلمةَ كان يدعُو بعدَهَا قائلًا في سجودِهِ: اللهُمَّ احشرنِي مع صاحبِ النقبِ.” (مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور، وعيون الأخبار لابن قتيبة).
أختمُ هذا العنصرَ برجلٍ ضربَ أروعَ الأمثلةِ في الإيجابيةِ: “يُروَى أنَّ مسلمةَ بنَ عبدِ الملك كان في جملةٍ مِن الجندِ يحاصرون إحدى قلاعِ الرومِ، وكانت محصنةً، وكانَ الدخولُ إليها صعبًا إلّا مِن نقبٍ فيهَا تخرجُ منهُ أوساخُ المدينةِ، فوقفَ مسلمةُ ينادِي في الجندِ: مَن يدخلُ النقبَ ويزيحُ الصخرةَ التي تحبسُ البابَ ويبكرُ حتى ندخلَ…
فقامَ رجلٌ قد غطَّى وجهَهُ بثوبهِ وقال أنا يا أميرَ الجندِ، ودخلَ النقبَ وفتحَ البابَ ودخلَ الجندُ القلعةَ فاتحين.. وبعدَهَا وقفَ مسلمةُ بينَ الجندِ يُنادِي على صاحبِ النقبِ حتى يكرمَهُ على ما فعلَ، وكان يرددُ: مَن الذي فتحَ لنَا البابَ؟ فما يجيبُهُ أحدٌ! فقال: أقسمتُ على صاحبِ النقبِ أنْ يأتينِي في أيِّ ساعةٍ مِن ليلٍ أو نهارٍ. فطُرِقَ بابُ مسلمةَ طارقٌ ليلًا، فيلقاهُ مسلمةُ مستبشرًا!! أنت صاحبُ النقبِ؟! فقال الطارقُ هو يشترطُ ثلاثةَ شروطٍ حتى تراهُ. قال مسلمةُ وما هي؟ قال: ألَّا ترفعَ اسمَهُ لدى الخليفةِ، ولا تأمر لهُ بجائزةٍ، ولا تنظر لهُ بعينٍ مِن التمييزِ، قال مسلمةُ: أفعلُ لهُ ذلك!! فقال الطارقُ: أنَا صاحبُ النقبِ وانصرفَ، وتركَ جيشَ مسلمةَ ذاهبًا إلى سدِّ الثغورِ في أماكنَ أخرى، ويُذكرُ أنَّ مسلمةَ كان يدعُو بعدَهَا قائلًا في سجودِهِ: اللهُمَّ احشرنِي مع صاحبِ النقبِ.” (مختصر تاريخ دمشق، لابن منظور، وعيون الأخبار لابن قتيبة).
ثالثًا: دعوةٌ إلى الإيجابيةِ.
أيُّها المسلمون: هذه دعوةٌ إلى الإيجابيةِ الفعالةِ في بناءِ المجتمعِ امتثالًا لِمَا جاءَ في القرآنِ والسنةِ، وإذا تأملنَا القرآنَ في قصصهِ وأحداثِه، نجد أنّ الطيورَ والحشراتِ لها مواقفُ إيجابيةٌ بناءةٌ وفعالةٌ، فهذا هدهدُ سليمانَ عليهِ السلامُ مثلًا رائعًا في الإيجابيةِ، ذاك الطائرُ الصغيرُ في حجمهِ، الكبيرُ في همهِ وإيجابيتِه، العظيمُ في تفكيرِه، قد انفردَ بعملٍ إيجابِي أدخلَ أمةً كاملةً في الإسلامِ، فالمسلمُ أولَى مِن الهدهدِ بالعملِ الإيجابِي والسعيِ وراءَ المصالحِ والبحثِ عن الخيرِ، فالقرآنُ العظيمُ قصَّ علينَا خبرَ الهدهدِ في تقصيهِ للحقائقِ والأخبارِ ونقلِهَا، وقصَّ علينَا خبرَ النملِ في حركتِه وحرصِه على قوتِه ومدَى تعاونِه، وقصَّ علينَا خبرَ النحلِ في تعاونِه وتعاضدِه، أفلا يكونُ الإنسانُ أولَى مِن هذه الطيورِ والحشراتِ بالمشاركةِ الإيجابيةِ والعملِ الدؤوبِ والحركةِ المتعاقبةِ المثمرةِ!!
إنَّ السيدةَ هاجرَ ضربتْ لنَا أروعَ الأمثلةِ في الإيجابيةِ، فمثلًا في السعيِ بينَ الصفَا والمروةَ ونحن نقلدُهَا وهى تبحثُ عن الماءِ لولدِهَا إسماعيل، كان مِن الممكنِ أنْ تجلسَ بجوارِ إسماعيلَ تبكي، أو تسعَى مرةً واحدةً، ولكنّهَا ظلتْ تسعَى! فجعلَ اللهُ السيدةَ هاجرَ رمزًا للإيجابيةِ، وجعلَ عن طريقِهَا عبادةً نتعلمُ منهَا الايجابيةَ!!
إنَّ القلبَ ليحزنُ حينما يُري الشبابُ وهم في أعزِّ قواهم العقليةِ والجسديةِ، ومع ذلك يفنِي الشبابُ قوتَهُ وشبابَهُ في الفراغِ والسلبيةِ وفي كلِّ ما حرّمَ اللهُ تباركَ وتعالَي مِن ملاهٍ ومشاربَ وخمورٍ ومجونٍ وغيرِ ذلك، ولو لم يكنْ الإنسانُ في حاجةٍ للعملِ، لا هو ولا أسرتُهُ، لكانَ عليهِ أنْ يكونَ إيجابيًا ويعملَ للمجتمعِ الذي يعيشُ فيهِ فإنَّ المجتمعَ يعطيهِ، فلابُدَّ أنْ يأخذَ منهُ، على قدرِ ما عندَهُ!!
يُروَى أنَّ رجلًا مرَّ على أبي الدرداءِ الصحابِي الزاهدِ فوجدَهُ يغرسُ جوزةً، وهو في شيخوختِه وهرمِه، فقال له: أتغرسُ هذه الجوزةَ وأنت شيخٌ كبيرٌ، وهي لا تثمرُ إلّا بعدَ كذا وكذا عامًا؟! فقال أبو الدرداء: وما عليَّ أنْ يكونَ لي أجرُهَا ويأكلُ منهَا غيري!! وأكثرُ مِن ذلك أنَّ المسلمَ لا يعملُ لنفعِ المجتمعِ الإنسانِي فحسب، بل يعملُ لنفعِ الأحياءِ، حتى الحيوانِ والطيرِ، والنبيُّ ﷺ يقولُ: ” مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ” [البخاري]، وبذلك يعمُّ الرخاءُ ليشملَ البلادَ والعبادَ والطيورَ والدوابَ!!
فعليكُم بالمشاركةِ والإيجابيةِ والجدِّ والاجتهادِ في بناءِ بلدِكُم، فمشاركتُم أمانةٌ مِن أجلِ صلاحِ البلادِ والعبادِ.
إنَّ مجتمعَنَا في حاجةٍ إلى الإيجابيةِ في جميعِ مجالاتِ الحياةِ، في الفكرِ والدعوةِ.. في الاقتصادِ…في السياسةِ … في العملِ والإنتاجِ … في التعليمِ … في الصحةِ… في الزراعةِ… في الصناعةِ… في التجارةِ….إلخ، إنّنَا إنْ فعلنَا ذلك سبقنَا جميعَ حضاراتِ المشرقِ والمغربِ!!