سعد الدّين الشّاذلي.. رجل العبور الذي عاقبه السادات وسجنه مبارك وأنصفه التاريخ
يبقى التاريخ شاهدًا بكل الفخر على بطل من الأبطال الذي سطر ورفاقه بحروف من النور ملحمة العبور العظيم، إنه رئيس أركان حرب القوات المسلحة في معركة التحرير الفريق سعد الدّين الشّاذلي العقل الرئيسي المدبر للهجوم المصري الناجح على خط الدفاع الإسرائيلي بارليف في حرب أكتوبر 1973.
سعد الدين محمد الحسيني الشاذلي المولود في دلتا مصر بقرية شبراتنا التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية، في الأول من أبريل 1922، كان يستمع للحكايات البطولية لجده لأبيه الذي كان ضابطا في الجيش، عشق الصغير المجال العسكري، فالتحق بالكلية الحربية في فبراير 1939، وكان أصغر طالب بدفعته كان عمره وقتها 17 سنة، وتخرج منها في يوليو 1940 برتبة ملازم في المشاة.
وفي العام 1943، تم اختيار الشاذلي للخدمة في الحرس الملكي، إضافة إلى ذلك شارك في الحرب العالمية الثانية، قبل أن يشارك ضمن سرية ملكية مرسلة من قبل القصر في حرب فلسطين عام 1948.
علاقة الشاذلي وعبد الناصر
بدأت علاقة الشاذلي بالرئيس جمال عبد الناصر قبل ثورة 23 يوليو 1952، وكانت بينهم علاقات أسرية، بالإضافة إلى كونهم ضباط مدرسين في مدرسة الشؤون الإدارية، وعندما فاتحه ناصر عن الضباط الأحرار في 1951، رحب بالفكرة وانضم إليها، لكنه لم يشارك في ليلة الثورة بشكل مباشر، كونه كان في إحدى الدورات التدريبية العسكرية.
وفي السنة التالية لثورة يوليو التي أنهت فترة حكم الملك فاروق، سافر الشاذلي إلى الولايات المتحدة في مهمة تدريبية متقدمة، ليعود بعدها ويؤسس أول قوات مظلية في مصر عام 1954 الذي تولى قياداتها حتى 1959.
وشارك الشاذلي في صد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كما شارك في حرب اليمن كقائد للواء مشاة بين عامي 1965 و1966، وشكل مجموعة من القوات الخاصة عام 1967، والتي عرفت فيما بعد باسم "مجموعة الشاذلي".
الشاذلي والنكسة 1967
وفي يونيو 1967 خلال حرب الأيام الستة، أظهر الشاذلي كفاءة عالية ووعيا تكتيكيا عسكريا كبيرا، بعد الفوضى التي عاشتها القوات المصرية على خلفية انسحابها العشوائي من صحراء سيناء امتثالا لأوامر القيادة، بعدما اجتاحت القوات الجوية للاحتلال سماء المنطقة.
وضع الشاذلي خطة أخرى، واتجه شرق سيناء ناحية صحراء النقب الفلسطينية عبر ممرات ضيقة، في وقت كانت تتجه فيه باقي القوات المصرية غربا، حيث تمركز بين جبلين خلف معظم خطوط دفاع العدو لحماية قواته من طيران الاحتلال، ومكث هناك يومي 6 و7 يونيو 1967 إلى أن تواصل مع القيادة المصرية التي أمرته بالانسحاب فورا غرب قناة السويس.
وقام بمناورة من أصعب المناورات العسكرية التي عرفها تاريخ الصراع المصري الإسرائيلي، إذ أمر قواته بالانسحاب ليلا من دون أي دعم جوي أو استخباراتي، ومع بزوغ فجر اليوم الموالي، رصد الطيران الحربي للاحتلال القوات المصرية التي يقودها الشاذلي وهاجمها، ونظرا لافتقارها إلى الأسلحة المضادة للطائرات، لم يكن بمقدور قوات الشاذلي الرد إلا بالمدفع الرشاش والأسلحة الخفيفة، وتمكنت من تجنب القوات البرية الإسرائيلية إلى أن وصلت إلى قناة السويس.
وبعد هذا الإنجاز اكتسب الشاذلي سمعة كبيرة في صفوف الجيش، وفي عام 1970 عينه الرئيس جمال عبد الناصر قائدا لمنطقة البحر الأحمر العسكرية بعد الغارات وتدمير منشآت على سواحل البحر الأحمر التي كانت تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلية.
وفي 22 يناير 1970 نجح الشاذلي في صد هجوم لقوات إسرائيلية كانت تطمح إلى احتلال جزيرة شدوان الصخرية بالبحر الأحمر بالقرب من مدخل خليج السويس، بعدما قصفتها جوا، وأتبعت ذلك بإنزال الجنود بالمروحية وبمراكب الإنزال، فأمر بالهجوم على الجزيرة بمساعدة عدد من سكان المحافظة، ونقل إليها جنودا ومعدات في الظلام، وتمكّن من تحريرها من الاحتلال.
وبعد وفاة عبد الناصر وصعود أنور السادات إلى سدة الحكم، عُيِّن الشاذلي رئيسا لأركان القوات المسلحة يوم 16 مايو 1971 متخطيًا حوالي 40 لواء من الألوية الأقدم منه بهذا المنصب، في إطار ما سميت بثورة التصحيح -التي باشرها السادات للتخلص من عناصر نظام ناصر- نظرا لكفاءته وتجربته العسكرية الطويلة.
خطة المآذن العالية
كانت النقطة التي أظهرت تميزًا نادرًا للشاذلي وقدرته الكبيرة على القيادة والسيطرة والمناورة، هي خطة "المآذن العالية" التي وضعها في أغسطس 1971 لمهاجمة قوات الاحتلال واقتحام قناة السويس عبر تدمير خط بارليف الدفاعي، الذي بنته إسرائيل بعد احتلالها منطقة سيناء بعد حرب 1967، بهدف تأمين الضفة الغربية للقناة ومنع عبور أي قوات مصرية إليها.
وعُزِّزَ هذا الخط بعدة حصون على الضفة الشرقية لقناة السويس، التي تفصل بين جيش الاحتلال والجيش المصري، كما أقامت قوات العدو حاجزا رمليا بارتفاع بلغ 17 مترا على شواطئ القناة لمنع القوات المصرية من محاولة عبور القناة.
ارتكزت خطة الشاذلي على نقاط ضعف قوات العدو، والتي كانت تتجلى في عدم قدرة إسرائيل على تحمل الخسائر البشرية بسبب العدد المحدود لعناصرها، بالإضافة إلى إطالة أمد الحرب؛ فهي كانت دائما تعتمد على حروب خاطفة تنتهي في غضون أسابيع قليلة مخافة تأثر أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
خطة المعركة كانت ترمي إلى حرمان إسرائيل من أهم مزاياها القتالية، وهي الهجوم عبر الأطراف من خلال وضع الجنود المصريين على البحر الأبيض المتوسط شمالا وخليج السويس جنوبا، في وقت لا يمكن فيه لقوات الاحتلال الهجوم من الخلف لوجود قناة السويس، ولن يبقى أمامها من حل سوى الهجوم من الأمام، وهو ما يجعلها تتكبد خسائر كبيرة.
حرب 6 أكتوبر 1973
وفي الثانية وخمس دقائق ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، شن الجيش المصري هجومًا كاسحًا على إسرائيل، بطول الجبهتين، حيث حلقت 200 طائرة مصرية على ارتفاع منخفض فوق القناة، وتوجهت في عمق سيناء وضربت قوات الاحتلال الإسرائيلية الرئيسية، في حين شنت وحدات من سلاح المدفعية قصفا كثيفا على حصون خط بارليف وحقول الألغام.
وعبرت المجموعة الأولى المكونة من 4 آلاف جندي قناة السويس، وفتحت حوالي 70 ممرا عبر الحاجز الرملي باستخدام مضخات المياه ذات الضغط العالي، تبعتها مجموعة المشاة التي عبرت بدورها القناة واستولت على معظم النقاط والحصون القوية لخط بارليف.
وفي اليوم التالي 7 أكتوبر وُضعت 5 جسور فوق القناة، وبدأت الفرق المدرعة بعبور القناة إلى سيناء، وفي 8 أكتوبر فشل الهجوم الإسرائيلي المضاد في دفع المصريين إلى التراجع، وحاولت إسرائيل مرة أخرى في 9 أكتوبر لكنها تكبدت مرة أخرى خسائر فادحة، ففقدت في يومين أكثر من 260 دبابة و30 طائرة وآلاف القتلى.
خلاف الشاذلي والسادات
بعد الانتصار المصري الساحق في أيام الحرب الأولى، بدأت إسرائيل تستعيد توازنها من جديد بتنفيذ قواتها بقيادة أرييل شارون عملية عسكرية قوية بين الجيش الثاني المصري الذي تمركز على الضفة الشرقية لقناة السويس، وبين الجيش الثالث الذي كان على ضفتها الغربية.
وعلى وقع تطور أحداث الحرب، أمر الرئيس أنور السادات بشن هجوم جديد للتقدم نحو ممرات سيناء، وهو ما عارضه الشاذلي بشدة أي تقدم باتجاه الشرق لأنه من شأنه أن يترك القوات المصرية معرضة لسلاح الجو الإسرائيلي دون غطاء جوي مناسب؛ لكن السادات ظل مصرا على رأيه، وأمر القيادات بتنفيذ الأمر بهدف تخفيف الضغط عن جبهة سوريا.
وفي 14 أكتوبر بدأ تطوير هجوم القوات المصرية إلى عمق سيناء، لكن ما كان يخشاه الشاذلي قد وقع، وتمكن جيش الاحتلال الإسرائيلي من تطويق الجيش الثالث الميداني من خلال ما عرف بـ"ثغرة الدفرسوار".
أراد الشاذلي الرد على هذه العملية الإسرائيلية بإعادة انتشار لواءين وكتيبة من الجيش الثاني لمحاصرة الإسرائيليين، لكن السادات رفض الأمر خشية أن يبدو وكأنه انسحاب وتتضرر معه معنويات الجيش المصري.
تسريح الشاذلي من الجيش
في 13 ديسمبر 1973، وفي قمة عمله العسكري بعد انتهاء الحرب مع إسرائيل، أراد السادات إبعاده عن القوات المسلحة بل وعن مصر كلها، فعينه سفيرا في بريطانيا (1974-1975)، ثم سفيرا في البرتغال (1975-1978)، قبل أن يعلن الشاذلي معارضته التامة للسادات إثر مفاوضات السلام بين مصر وإسرائيل التي اعتبرها الشاذلي تفريطا في حقوق مصر والعرب وإهدارا لانتصار أكتوبر.
وخلال تلك الفترة، كان السادات قد ذهب إلى إسرائيل في نوفمبر 1977، وقدم الشاذلي استقالته من منصبه، وانتقد علنا اتفاقية كامب ديفيد، التي وقعها السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن عام 1978 في الولايات المتحدة، واتخذ قرارا بالرحيل إلى الجزائر كلاجئ سياسي.
مذكرات الشاذلي
وفي الجزائر، أصدر الشاذلي كتابًا قدم فيه روايته لحرب أكتوبر 1973، اتهم فيه السادات باتخاذ قرارات خاطئة رغمًا عن جميع النصائح من المحيطين أثناء سير العمليات على الجبهة، أدت إلى التسبب في الثغرة وتضليل الشعب بإخفاء حقيقتها وتدمير حائط الصواريخ، وحصار الجيش الثالث لمدة فاقت الـ3 أشهر، كانت تصلهم الإمدادات تحت إشراف جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وأنهى الشاذلي كتابه ببلاغ للنائب العام يتهم فيه السادات بإساءة استعمال سلطاته، الذي بسببه حوكم غيابيا أمام محكمة عسكرية بتهمة إصدار كتاب دون موافقة وإفشاء أسرار عسكرية، وهي التهمة التي نفاها، واعتبر أن ما نشره هو معلومات حكومية وليست عسكرية، وحكم عليه غيابيا بالسجن 3 سنوات مع الأشغال الشاقة، وتمت مصادرة جميع ممتلكاته في مصر، كما تم حرمانه من التمثيل القانوني، وتجريده من حقوقه السياسية.
واشتد الخلاف إلى حد حذف اسم الشاذلي وصوره من القائمة الرسمية لحرب 6 أكتوبر، كما تعرضت سمعته للتشويه والهجوم، وحُظرت مذكراته في مصر.
وبعد اغتيال السادات عام 1981 انتقلت العداوة تجاه الشاذلي إلى الرئيس الجديد محمد حسني مبارك، الذي كان بدوره قائدا لسلاح الجو خلال حرب 1973 تحت رئاسة الشاذلي.
الشاذلي ومبارك
وبعد 14 سنة قضاها الشاذلي لاجئا سياسيا في الجزائر، قرر العودة إلى الوطن، وقبض عليه فور وصوله مطار القاهرة الدولي، وجرد من جميع الأوسمة والنياشين، وأجبر على قضاء مدة الحكم عليه بالسجن دون محاكمة، رغم أن القانون المصري ينص على أن الأحكام القضائية الصادرة غيابيًا لا بد أن تخضع لمحاكمة أخرى.
الشاذلي الذي يعد واحدًا من أبرز القيادات في تاريخ العسكرية المصرية، لم يجد تقديرًا عسكريًا سواء من الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي أودعه السجن دون محاكمة أو سلفه أنور السادات الذي قام بنفيه خارج الوطن.
وفي عام 2015 ردت القوات المسلحة اعتبار الشاذلي وكرمته بفيلم وثائقي قصير يحكي بطولاته، وكيف لا، وهو رجل العبور الذي تمنى ذلك اليوم الذي لم يراه أبدًا بهذه الكلمات: "أنا واثق إن مصر وليس السادات سوف تكرمني في يوم من الأيام بعد أن تعرف حقائق وأسرار حرب أكتوبر، ليس التكريم هو أن أمنح وسامًا في الخفاء، ولكن التكريم هو أن يعلم الشعب بالدور الذي قمت به، سوف يأتي هذا اليوم مهمًا حاول السادات تأخيره ومهما حاول السادات تزوير التاريخ".
مسيرة طويلة عريضة قضاها الفريق سعد الدين الشاذلي في خدمة الوطن بكل كفاءة وأمانة وإخلاص، ليرحل قبل تنحي مبارك وسقوط نظامه بيوم واحد فقط 10 فبراير 2011، عن عمر ناهز 89 عامًا.
وفي مشهد مهيب صلى مئات الآلاف من المصريين صلاة الغائب على الشاذلي في قلب ميدان التحرير، ليكون العاشر من فبراير 2011 بمثابة تكريم للرجل الذي عانى الغربة والسجن، فضلا عن التنكر لدوره في انتصار أكتوبر 1973 على العدو الإسرائيلي.