فرنسا فوق صفيح اجتماعي اقتصادي سياسي شديد السخونة.. ماذا يحدث هناك؟
لم تنعم فرنسا إلا بقدر ضئيل من الهدوء منذ بداية العام 2023، فما تكاد تعبر أزمة حتى تستعد لاستقبال أزمة جديدة، وبمجرد هدوء الغبار في أعقاب تراجع المظاهرات اعتراضًا على الإصلاحات التي أدخلتها الحكومة على قانون التقاعد في الربع الأول من السنة، انطلقت انتفاضة احتجاجية عنيفة وخطيرة إثر وفاة الشاب نائل يوم الثلاثاء الموافق 27 يونيو المنصرم،
في أعقاب انتشار مقطع فيديو انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبثته وسائل الإعلام يبدو فيه شرطيان يوقفان الشاب الذي لم ينصع لأوامرهما وفضل الهروب منهما فأرداه أحد الشرطيين قتيلًا بالرصاص.
وأدخل الشرطي السجن وانتقل نائل من الحيوية والحركة إلى السكون ولكن إلى الأبد، لذا تعيش فرنسا واحدة من أشد حالات الاضطراب خطرًا بحسب المراقبين الذين يرون أن جيل 2023 أكثر عنفًا من جيل 2005، وفقًا لما نقله موقع فرانس 24 عن متخصصين في علم الاجتماع.
احتجاجات عنيفة في المدن الفرنسية
انطلقت الاحتجاجات الأخيرة من مدينة نانتير القريبة من العاصمة باريس، وهي المكان الذي نشأ وعاش فيه نائل مع والدته وسرعان ما انتشرت نيران الاحتجاجات إلى العاصمة وضواحيها ومن هناك إلى العديد من المدن الفرنسية ولم تنجح الحكومة في منع انتقال عدوى الاحتجاجات كما وصفتها صحيفة لوفيجارو.
وحلت محل روائح العطور الفرنسية الشهيرة رائحة البارود والغاز المسيل للدموع قبيل احتفالات العيد الوطني في 14 يوليو الجاري التي ينتظرها الفرنسيون لمشاهدة الألعاب النارية في العاصمة والمدن الكبرى، ولكنهم اليوم يشاهدون الألعاب النارية تطلَق ضد الشرطة وتصيب أفرادها بالجروح والحروق ما يستدعي نقلهم إلى المستشفيات.
واعتاد الفرنسيون انتظار موسم الأوكازيونات والخصومات لشراء احتياجاتهم في الصيف، في أواخر يوليو الجاري، ليفاجئوا بالمحتجين على موت نائل يكسرون واجهات المتاجر ويسرقون كل ما تصل إليه أيديهم، ورجح لا يبدو أن الاحتجاجات ستهدأ سريعًا، خاصة أن العام الدراسي شارف على الانتهاء. وبالتالي لا إطار مجتمعيًا يضبط الشباب المراهقين الذين يمارسون العنف ضد رجال الشرطة ويعتدون على الأملاك العامة والخاصة.
منافسو إيمانويل ماكرون يتحركون
في أول خطاب لها في البرلمان مع انحسار أعمال الشغب في فرنسا هذا الأسبوع، اتهمت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان الحكومة بتحويل البلاد إلى "جحيم" توقعته من قبل.
وقالت لوبان البالغة من العمر 54 عاما والتي تتزعم 89 نائبا البرلمان منذ انتخابات العام الماضي: "الحقيقة هي أنكم في السلطة لم ترغبوا في سماع أي من التحذيرات، لقد توقعنا ما يحدث على الرغم من المحن الكبيرة.. وللأسف الشديد كنا على حق".
ووفقًا لتقرير لمجلة "ذي بارون الاقتصادية، في السابق، توقعت لوبان هي ووالدها جان ماري زوال فرنسا وحتى الحرب الأهلية منذ السبعينيات في خطابات مشبعة برائحة الموت ركزت على وجود الأجانب في فرنسا.
وتابعت لوبان: "قبل كل شيء وقبل أي شيء آخر، نحتاج إلى وقف الهجرة الفوضوية" ولا تزال التداعيات السياسية لأسوأ أعمال عنف حضرية في فرنسا منذ عام 2005 على قدر من الغموض إلى حد كبير، مما أدى إلى تكهنات حول من سيستفيد من انهيار القانون والنظام الذي صدم ملايين الفرنسيين.
وتسبب رئيس حزب فرنسا غير الخاضعة، جان لوك ميلينشون، في حدوث انقسامات مع حلفائه الاشتراكيين والشيوعيين بسبب إخفاقه في الدعوة بشكل قاطع إلى الهدوء وأشار إلى أن المتورطين في أعمال الشغب حفنة من "الفقراء المتمردين" وانتقدته صحيفة لوموند ذات الميول اليسارية بشدة في افتتاحية، قائلة إنه "على خلاف مع مطلب قوي للغاية بعودة النظام والذي يتصاعد في الرأي العام" وقالت صحيفة ثور: "في بلد صدمته خمسة أيام من أعمال الشغب في المدن، لا يجب أن يطمئن اليسار".
اليمين يستثمر مقتل نائل سياسيًا
سعت لوبان وكثيرون آخرون من اليمين إلى إلقاء اللوم في عمليات النهب والاشتباكات الجماعية على مجتمعات المهاجرين، ومعظمهم من المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا، الذين استقروا في مناطق الضواحي في البلدات والمدن منذ الستينيات وعلى الرغم من أعمال الشغب التي اندلعت بسبب مزاعم عن وحشية الشرطة والعنصرية بعد إطلاق النار القاتل على نائل، وهو شاب يبلغ من العمر 17 عامًا من أصل جزائري في باريس - يشعر العديد من المحللين بتوعد اليمين المتطرف بقمع جذري للجريمة وفرض قيود جديدة على الهجرة.
ويعتقد أوليفييه بابو، المؤسس المشارك لمعهد سابينس ذي الميول اليمينية: "أعتقد أننا سنشهد ارتفاعًا في عدة نقاط للتجمع الوطني امتدادًا للمكاسب المذهلة التي حققوها خلال السنوات القليلة الماضية".
وأضاف بابو في تصريحات لوكالة فرانس برس: "من دون أن يفعلوا أو يقولوا الكثير، فإن الأحداث تساعدهم على إقناع جزء من السكان".
وحققت لوبان أعلى نتيجة لها على الإطلاق في الانتخابات الرئاسية العام الماضي - 41.5 في المائة في الجولة الثانية - ثم احتفلت بنتائج الانتخابات البرلمانية القياسية بعد شهرين.
ويوافق جان إيف كامو، المتخصص في شؤون اليمين المتطرف بمؤسسة جان جوريس، الرأي الذي يعتبر لوبان الوجه السياسي الأكثر راديكالية والأكثر مناهضة للإسلام وأنها، مع وجه سياسي آخر هو إريك زمور، الأكثر استفادة من أعمال الشغب.
وقال لوكالة فرانس برس “هناك خطر من ان يستفيد إريك زيمور ومارين لوبان من هذا الوضع الراهن، لا سيما خلال الانتخابات الأوروبية التي ستجرى العام المقبل”.
وسعت الحكومة الفرنسية إلى مواجهة الرواية التي يروجها اليمين المتطرف والحزب الجمهوري بأن المهاجرين هم المسؤولون عن الاضطرابات، التي شهدها ما يقرب من 273 مبنى تابعًا لقوات الأمن وتدمير 168 مدرسة وأكد وزير الداخلية جيرالد دارمانين إن 90 في المائة من حوالي 3500 شخص تم القبض عليهم خلال ليالي الخمس من أعنف أعمال الشغب هم مواطنون فرنسيون.
واندلعت أعمال شغب بسبب مزاعم عن وحشية الشرطة والعنصرية بعد إطلاق النار القاتل على شاب يبلغ من العمر 17 عامًا، ويتصاعد القلق بشأن التعامل العنيف القائم على الهوية وتراجع الخطاب الرسمي حول أفضل السبل لدمج المهاجرين.
ويعتقد كامو أن بعض الناخبين قد ينسب الفضل للحكومة في السيطرة على الاضطرابات في أقل من أسبوع بفضل الانتشار الهائل لما يصل إلى 45000 من قوات الأمن في ذروتها واستمرت أعمال الشغب الأخيرة على مستوى البلاد في عام 2005 لما يقرب من ثلاثة أسابيع ودفعت الحكومة إلى اللجوء إلى حالة الطوارئ.
وقال لوكالة فرانس برس "دون الاضطرار الى استخدام حالة الطوارئ وباستراتيجية الاستجابة التدريجية، أبدت الحكومة انها قادرة على احتواء الاحتجاجات".
تعامل الرئيس الفرنسي مع الأزمة
ندد الرئيس إيمانويل ماكرون بإطلاق النار "غير المبرر" الذي تورط فيه شرطي، والذي أشعل فتيل أعمال الشغب، ووعد رئيس الدولة برد فعل، لكن إصلاح الشرطة الرئيسي - الذي دعا إليه اليسار - لا يزال غير مطروح على الطاولة وركز ماكرون حتى الآن على كيفية معاقبة الآباء الذين يرتكب أطفالهم جرائم وسط صدمة بشأن الأعمار الصغيرة للعديد من مثيري الشغب.
دفع الوضع الخطير في فرنسا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى قطع مشاركته في القمة الأوروبية المنعقدة في بروكسيل ورأس اجتماعًا لخلية أزمة وزارية وأدلى بتصريح طلب فيه من الأهل تحمل مسؤولياتهم في مراقبة ما يتسلى به أبناؤهم من ألعاب فيديو وما يشاهدونه على مواقع التواصل الاجتماعي.
وأفاد مصدر في الشرطة بأن العديد من الموقوفين تراوحت أعمارهم بين 14 و18 سنة وشوهد أولاد تراوحت أعمارهم بين 12 و14 يشاركون في أعمال العنف وهذا ما استدعى من الجمعيات الأهلية إصدار نداءات تدعو الأهل إلى تحمل مسؤولياتهم في ضبط تصرفات أبنائهم والحفاظ على حياتهم ومستقبلهم.
ووجهت صحيفة لوفيجارو اليمينية انتقادات للرئيس ماكرون بعد تعليقه الأول على موت الشاب نائل والاحتجاجات التي تبعته فقد حاول ماكرون، من مرسيليا التي كان في زيارة لها استغرقت ثلاثة أيام، استيعاب نقمة الشارع، وقال عن مقتل الشاب نائل بأنه أمر "غير مفهوم وغير مبرر".
وطالب بتهدئة النفوس لأن الوقت هو "وقت التأمل" ولكن اليمين يريد من الرئيس اتخاذ موقف حاسم تجاه ما يحدث يشبه الموقف الذي اتخذه الرئيس السابق جاك شيراك ودومينيك دوفيلبان (كان رئيسًا للوزراء) ونيكولا ساركوزي (كان وزيرًا للداخلية) تجاه احتجاجات 2005، وفي ذلك العام انطلقت احتجاجات بعد مقتل شابين صعقًا بالكهرباء أثناء هروبهما من رجال الشرطة، استمرت ثلاثة أسابيع وحينها أعلن رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان حالة الطوارئ وقرر جاك شيراك، في عهده، تمديدها لثلاثة أشهر لحماية الأمن والنظام العام.
مرسيليا تشهد أيامًا عصيبة
ذكرت مجلة "ذي بارون أن مرسيليا، ثاني أكبر مدن فرنسا التي تبعد مسافة 800 كيلومتر من نانتير، تحولت إلأى مات يشبه "ساحة حرب" أواخر يونيو ففيها ثلث السكان من أصول عربية، وخاصة المنحدرين من أصول جزائرية وشوهدت المروحيات تحوم فوق المدينة مع طائرة استطلاع استمرت تحلق فوقها إلى ما بعد حلول الظلام ولم تهدأ صفارات سيارات الشرطة طوال الليل وسهر المواطنون على دوي الانفجارات واستنشقوا رائحة المفرقعات وقنابل الغاز المسيلة للدموع وكان اللبنانيون في المدينة، الذين عاشوا الحرب في لبنان، قد تذكروها، وبخاصة من شارك فيها أو من كان يقطن قريبًا من خطوط التماس، وكان تعليقهم السائد "إن ما يجري في فرنسا خطير وينذر بالأسوأ".
الكراهية
تنم مظاهر العنف عن "كراهية" وهذه هي الكلمة التي ترددت كثيرًا على ألسنة المحللين عبر وسائل الإعلام وربما تشمل "كراهية" الدولة، ونظامها، ومؤسساتها، والشرطة التي تحفظ الأمن فيها وقد عبر الشباب المنتفض عن هذه الكراهية بالاعتداء على بعض رؤساء البلديات وبإضرام النيران في المباني الحكومية ولم يكن هناك استثناء، فطالت يد التخريب مراكز البلديات والمدارس ومراكز الترفيه وعربات النقل والمواصلات العامة وعربات الترام في مدينة كلامار المحاذية لباريس كما حاول المحتجون إضرام النيران بالمكتبة العامة في مرسيليا.
وتوقف العمل بالباصات والترام في باريس وضواحيها ابتداء من الساعة التاسعة مساءً وفي مرسيليا قررت البلدية إيقافها ابتداء من الساعة السادسة مساءً ورفعت من الطرقات كافة الدراجاتُ الهوائية والاسكوتر التي تضعها البلدية عادة في خدمة المواطنين والزائرين وبدت الخسائر كبيرة بعد أربع ليالٍ من الاحتجاجات.
حالة طوارئ
ردًا على سؤال عن إمكانية إعلان حال الطوارئ في المدن حيث تدور احتجاجات عنيفة، قال وزير الداخلية جيرار دارمانين: "ليس معنى عدم إعلان حالة طوارئ أنه لن يكون هناك تدابير استثنائية".
وأضاف "لا نستبعد أي خيار" وأعلن أن الوزارة رفعت استعداد الشرطة من 40 ألف شرطي إلى 45 ألف على كل الأراضي الفرنسية ومنذ بداية الاحتجاجات طالب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب اليمين الديغولي بإعلان حال الطوارئ في نانتير.
احتجاجات 2023 الأخطر
"ما يحدث اليوم أخطر مما حدث في 2005"، وفقا لميشيل أوبوان، المسؤول الكبير السابق لوزارة الداخلية، وإضافة إلى خبرته في الوزارة، نشر الرجل كتابين: واحدًا بعنوان "40 عامًا في الضواحي"، والآخر عنوانه "التحدي أن تكون فرنسيًا".
ويتناول الكتابان مسألتين أساسيتين في فرنسا: الضواحي ودمج المنحدرين من أصول غير فرنسية في المجتمع وغالبية المحتجين اليوم هم من سكان الضواحي ويتحدرون من أصول عربية، وهما موضوعان باتا اليوم في صلب مناقشة وتحليل الاحتجاجات على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وهما مسألتان تهددان الاستقرار في فرنسا من وقت لآخر، وتضعان البلاد منذ أيام على صفيح ساخن في بداية موسم الصيف الحار.
العوامل الاقتصادية
قد تتباطأ معدلات التضخم في جميع أنحاء أوروبا، لكن أسوأ أزمة تكلفة معيشية منذ جيل لا تزال مستعرة عندما يتعلق الأمر بالسلع الغذائية، وسجلت مؤشرات الأغذية المخصصة من وكالة بلومبرج لكل من فرنسا وإسبانيا ارتفاعات قياسية في شهر مارس الماضي، حتى مع تباطؤ التضخم الرئيسي بشكل كبير.
وذكرت مجلة "كومبتاكت" أنه خلال الأسبوع الماضي، تعرضت فرنسا لأسوأ موجة من أعمال الشغب منذ عقود، متجاوزة حتى أعمال الشغب المدمرة في عام 2005 وهناك دائمًا إغراء في بقية الغرب لرفض حالات الفوضى المنتشرة هذه على أنها حالة فرنسية خالصة.
وترجح المجلة أن هذا التقييم سيكون غير حكيم كما أنه ليس من الحكمة التركيز بالكامل على مشاكل الهجرة الجماعية والدمج الفاشل للمهاجرين في المجتمع الأوروبي.
وتقول المجلة: “لا شك أن هذه القضايا ذات صلة ومهمة، ولكن يكمن تحت السطح شيئًا مخيفًا أكثر لم تتم مناقشته بعد وهو أزمة تكلفة المعيشة الأكثر حدة مما شهده معظمنا في حياتنا”.
وينشر المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية، مثل الوكالات المماثلة في جميع أنحاء أوروبا، مجموعة متنوعة من البيانات الاقتصادية وفي الأيام الأخيرة، صدر جزء واحد من البيانات التي تثير تساؤلات جدية حول الاتجاه الذي تتجه إليه أوروبا اليوم ويشير الرسم البياني الذي يتتبع الإنفاق الشهري على الغذاء للأسر الفرنسية إلى تطور غير مسبوق في حياتهم.
على مدى أربعة عقود على الأقل، قفز إجمالي الإنفاق الغذائي للأسر الفرنسية بشكل مطرد، دون أي انقطاع وحتى الركود العظيم أدى إلى انخفاض المنحنى مؤقتًا، لم يدم، وبحلول عام 2010، استأنفت صعوده الطبيعي ثم ضربت جائحة كوفيد الاقتصاد في الشرق والغرب وارتفع الإنفاق على الطعام أعلى من ذلك بكثير وبعد ذلك، انخفض الإنفاق على الغذاء بشكل طفيف، إلى مستوى لا يزال مرتفعًا.