الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
سياسة

الشاعران فؤاد نجم ونجيب شهاب الدين: مبارزات ما بعد الرحيل

الرئيس نيوز

اتصلت بي من باريس الصحفية الفرنسية الروسية الأصل صديقة العمر صوفي شهاب لتقول لي إن نوّارة نجم قالت كلاما غير طيب عن زوج صوفي الشاعر الراحل، صديقي وشقيقي نجيب شهاب الدين مؤلف أغنية "يا مصر قومي وشدي الحيل" التي ترددت أصداؤها في ساحات التظاهر والاحتجاج في 25 يناير 2011. ورد هذا الكلام غير الطيب في كتاب نوّارة الذي صدر مؤخرا "أنت السبب يابا". 

وقلت لصوفي إن والدة نوّارة الكاتبة صافيناز كاظم سبق لها أن رددت ذلك الكلام في مقال لها في حياة نجيب وإني أفهم حقيقة ما جرى على أساس يختلف عن الأساس الذي تفهمه به السيدة صافيناز وابنتها لكنه أقرب إلى فهم نجم ونجيب وإلى تسامح الأول مع الأخير.

وأضافت صوفي أن أحد الكتاب ينسب كلاما آخر هو أيضا غير طيب إلى فؤاد نجم عن نجيب. 

وسوف أتحدث في هذا المقال عن نجم وشهاب الدين كصديقين وكشاعرين. وفي غضون ذلك سوف أوضح ما قيل عن نجيب وأرد عليه.

تعرف نجيب شهاب الدين إلى إمام ونجم وجماعتهما في الشهور التي تلت الانتفاضة الطلابية في العام 1972، وكان ذلك بعد أن ترك الخدمة في الأمن المركزي بوزارة الداخلية بعدة سنوات. وقد استدعى الكاتب المشار إليه شبحي الشاعرين الراحلين وأحيا مبارزة كلامية دارت بين نجم وبين نجيب على صفحات "الدستور" قال فيها نجم إن نجيب كان مدسوسا عليه وعلى الشيخ إمام وجماعتهما من وزارة الداخلية التي تركها نجيب في العام 1969. ولدخول نجيب الخدمة في وزارة الداخلية قصة كان لي دور أساسي فيها.

وقبل رواية القصة أذكر ما أشاعه نجم عني حين سقط من جيبي تصريح دخول مؤقت لقاعدة جوية. والتقط نجم التصريح وقبل أن يسلمني إياه ألقى عليه نظرة خاطفة فوجد صورتي وتحتها وظيفة ورتبة من اعتمد التصريح وهو مقدم طيار وتحت الوظيفة والرتبة توقيعه فظن أني أنا مقدم طيار.

وانتقلت الشائعة للمحيطبن بي وظنوا أني أخفي حقيقتي فلم يصارحني بذلك أحد منهم، حتى اعتقل نجيب فصرخ واحد منهم وكان مريضا نفسيا وشديد البراءة كالأطفال، فراح يقول: هذا الضابط السري هو من اعتقل نجيب وسيعتقلنا جميعا. وحاول الكل إسكاته فلم يسكت. لقد كان يحيط بنا ويثقل على أرواحنا جو من الخوف والشك الذي كان من أبرز ملامح العصر الناصري ولم يتبدد إلا بعد أن انتهت حرب أكتوبر على النحو الذي هدأ الأجواء وخلق فترة من الاسترخاء. وأعود لعلاقتي بالتحاق نجيب بالخدمة في وزارة الداخلية.

عجز نجيب عن الحصول على الثانوية العامة وظل بلا دراسة ولاعمل في بيت الأسرة في البتانون بمحافظة المنوفية لأكثر من عام. وطلب مني والده أن أقنعه بالتطوّع للخدمة العسكرية فقلت لنجيب: عند الإعلان عن فتح باب التطوع للخدمة العسكرية قدم نفسك فورا كمتطوّع حتى تكون لك مهنة ودخل منتظم.

وفوجئت به بعد ذلك متطوعا في قوات الأمن المركزي لأنه أخذ كلامي بمعناه الحرفي وتقدم للخدمة بعد أول إعلان بهذا المعنى وكان ذلك في قوات الداخلية وليس في الجيش كما كان يقصد أبوه وكما كنت أقصد أنا.

وعاش نجيب بعد ذلك ست سنوات بالغة الصعوبة على شاعر وإنسان رقيق مثله حتى خلصه منها الفنان محمد حجي الذي كانت له علاقات واسعة في مختلف أجهزة الدولة بحكم عمله في روزا اليوسف، ثم ألحقه بوظيفة في المجلس الأعلى للثقافة قبل أن يعرف نجيب نجم وإمام بسنوات. وقد فعل حجي ذلك بدافع التعاطف الذي شعر به تجاه نجيب كما شعر به معظم من عرفوا نجيب من الإعلاميين والمثقفين والأدباء والشعراء وبينهم عبد الرحمن الأبنودي الذي عرفته أنا ونجيب بعد أن شاهدنا عرضا في مسرح الجمهورية ولم نكن نعرف من هو الأبنودي إلا بعد أن أشار إليه الممثل الكوميدي المعروف سعيد صالح الذي كان يجلس على مسافة قريبة منا وبجواره ممثل على أول طريق الشهرة اسمه عادل إمام. صاح سعيد صالح: "ده عبد الرحمن الأبنودي" ورد إمام ساخرا: "ويطلع مين الأبنودي ده؟" وقال صالح: "ده شاعر عظيم" فرد إمام: “عظيم مين يا عم؟”. وقهقه المحيطون بالاثنين في حين ذهبنا للتعرّف على الأبنودي الذي كنا من عشّاق شعره قبل أن نلقاه. وكانت هذه بداية علاقة وثيقة بين نجيب والأبنودي الذي اعتبرنجيب شقيقا أصغر. ثم ضاق الأبنودي وزوجته الأولى السيدة عطيّات بنجيب الذي لم يكن سوى فوضوي لا يعرف شيئا اسمه النظام رغم ست سنوات قضاها جنديا في الأمن المركزي. وهكذا انتهت علاقة نجيب بالأبنودي وانتهت معها محاولة نجيب الأولى للعثور على أسرة بديلة.

وكانت محاولته الثانية عندما تعرّف إلى نجم وإمام وأقام معهما في الغوريّة في "مغارة" في بيت في "خوش قدم" وهو اسم فارسي يعني "مرحبا" حوله اللسان المصري إلى "حوش آدم" في 1972 كما قلت. وفي ذلك العام قابلت أنا ونجيب صوفي شهاب لأول مرّة ثم ذهبت معها ومع صديقتها كاترين وصديقنا الراحل وليد قاسم (عم الممثل كريم قاسم) إلى العجمي لنضمن للشيخ إمام ورفيقه الطبّال محمد علي مكانا أمنا في فيللا آل قاسم علي شاطئ العجمي يهربان فيه من الشرطة التي كانت تطاردهما انذاك.

وانضم إلى جماعتنا نجيب الذي بدأت منذ ذلك الحين علاقته مع صوفى التي أصبحت زوجته وأم طفليه. نجم شديد العطف على نجيب وعرفني نجيب على إمام ونجم وكان الأخير ينادي نجيب باسم "كئيب" شهاب الدين فيما كان نجيب يسميه "عفاشة" وكان ذلك نوعا من التدليل الخشن المتبادل فكل ماكان يدور بين نجم وإمام والمحيطين بهما كان يتسم في ظاهره على الأقل بنوع من الخشونة التي تخفي وراءها رقة متناهية. ولم يكن نجم ليوجه إلى نجيب اتهاما شديد الخشونة بأنه مندس على جماعتهم من أي جهة كانت لولا أن نجيب استفزّه بما كتبه في الدستور في المبارزة الكلامية التي أخرجها أحد الكتاب من ظلمات النسيان.

أما ما قالته صافيناز كاظم وابنتها من أن نجيب بدد مبلغا من المال كان كفالة الإفراج عن نجم قد اعتبر الأخير المسألة "نكتة" وأضيف أنا أن نجم ونجيب لم يعرف أي منهما قيمة للمال. كانا يأخذان من الأحباء بلا تحفظ ويعطيان القريب والغريب بلا تحفّظ. كانا أقرب إلى الشعراء الصعاليك في الأزمنة العربية القديمة، منحازين إلى الفقراء وقريبين منهم، على رغم تردد الإثنين على بيوت المشاهير التي كان يذهب إليها إمام ونجم ووراءهما مجموعة بينها نجيب الذي ظل لفترة طويلة ضمن كورس الشيخ إمام قبل أن يصبح مؤلفا لأغنيتين من أغانيه. أعتبرهما أنا الأقل قيمة بين قصائد نجيب من الناحية الفنية. وكان بين تردد عليهم إمام وجماعته أباطرة اليسار مثل لطفي الخولي ومحمد سيد أحمد بل وذهبوا إلى بيت الأستاذ محمد حسنين هيكل بعد أن خاصم هيكل السادات. وعندها طلب منهم هيكل أن يغنوا له الأغنيّة التي هجوه بها "بصراحة يا مستر ميكي" فحاول إمام ونجم الاعتذار في خجل ولكن هيكل أصر.

وقد تطورت شخصيتا نجم وشهاب الدين على مر السنوات. وقد عرفت أنا نجم في المراحل الأولى من تاريخه الفني -السياسي عندما كان ينطق بلسان الشارع المصري مبرزا التناقض الظاهري بين خطاب جمال عبد الناصر القوي والعنيد في مواجهة الاستعمار والصهيونيّة وبين ما بدا لنجم أنه تراجع في مواجهة القوتين الغاشمتين. ولم أعرفه في المراحل التالية التي تطوّرت فيها شخصيّته وأصبح أكثر تعاطفا مع نجاحات عبد الناصر وإخفاقاته. وإذا كانت أشعار نجم في مرحلة تحديه للنظام الناصري هي في نظري بالغة السذاجة والسطحية رغم ما انطوت عليه من بسالة رجل تحدى نظاما استبداديا باطشا، فإن قصيدته "في ضريح عبد الناصر" هي أرقى ما كتبه على الإطلاق وهي أيضا خطوة واسعة باتجاه الانسحاب من الهامش والدخول في قلب المجتمع من دون التخلي عن أدواته المتمثلة بالجلباب والمعجم الخشن وعنصر الفكاهة وتجاوز المألوف. وفي هذا الإطار يمكن أن نفهم ما قيل عن علاقته مع رجل أعمال مثل نجيب ساويرس. 

أما نجيب شهاب الدين الذي ظل صديقا لي حتي نهاية حياته، فقد كنت أراه في السنوات الأخيرة من عمرة محاطا في مسكنه الموجود فوق شقّتي القديمة في الملك الصالح، بأسرة بديلة أخرى تتألف من عمّال الجراج القريب من بيته وآخرين من بسطاء ذلك الحي الشعبي. ولم يكن نجيب يغلق باب مسكنه ليلا أو نهارا بل كان يحشر باب الشقة في الريتاج بأوراق جرنال ليتمكن من الدخول إليه كل من يريد ذلك. هكذا انتهت حياة نجيب الذي ترك وراءه زوجته وطفليه في باريس وهجر العمل لدى منظمات الأمم المتحدة في روما ليعود إلى الملك الصالح ثم إلى البتانون منوفيّة حيث توفي في بيت الأسرة.

رصدت ضيئا من حياة الصديقين وقد أقول المزيد عن أشعارهما في مقال لاحق، إن سمحت الظروف.