حسن أحمد عبد الله يكتب: الفراغ الرئاسي في لبنان قديم يتجدد.. وسيتجدد
ربما لم يدرك اللبنانيون أن في ثرثراتهم السياسية يحفرون قبر دولتهم، وان الطاقم الحاكم لا يسعه إلا أن يتسلى بها ويستثمرها كما يستثمر أيضا الكيدية، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فهو منذ زمن فقد حيويته، ولم تعد السياسة في لبنان، رغم الضجيج الذي تتركه العربات الفارغة في قطار الدولة، سوى تسلية لا أكثر.
منذ العام 1988 حين وقع الفراغ الأول في رئاسة الجمهورية لم يدرك اللبنانيون أن إعادة تركيب المؤسسات يحتاج إلى رؤية أخرى، تقوم على مفهوم الدولة المدنية، وان عدم المصالحة بين المكونات الاجتماعية التي حولتها القوى المتنازعة محليا، خدمة للخارج، يوسع الهوة بين الشعب الذي قبل بالقليل للخروج من أتون الحرب.
اليوم، وبعد تكرار الفراغ الرئاسي والمؤسساتي عامة، يعيش المواطن حياته اليومية وكأن شيئا لم يتغير، لأنه اعتاد على الفراغ، وبات يعتمد على نفسه في تأمين حاجياته اليومية، من دون الاعتماد على المؤسسات الرسمية.
هذا الوضع الاستثنائي لا يمكنه أن يستمر لأن تحلل المؤسسات، وتجاهل القانون يؤديان إلى زيادة الجريمة، إضافة إلى جعل الفساد عادة يومية عند الجميع، خصوصا في ظل نهب ممنهج لثروات اللبنانيين، لا سيما الودائع الفردية في البنوك، التي يرفع جميع الطاقم السياسي شعار "الودائع مقدسة"، بينما يعمل، على العكس من ذلك، إذ يستمر نهب الناس وفق قرارات مخالفة للدستور والقانون، وبالتالي، فإن الاحتيال في هذا الشأن أصبحت له شرعيته، من خلال الاتفاق بالتراضي بين المودع وبين المصرف، أو التاجر على القبول بأي مبلغ من أجل تسيير أموره.
هذا الأمر ينسحب على مختلف شؤون الحياة، بدءا من احتكار التمثيل السياسي تحت شعار "حقوق الطائفة"، وصولا إلى تبادل الفساد، وبالتالي أصبح من الصعب أن تكون هناك مؤسسات دستورية سليمة، يمكنها العمل على تغيير الواقع الشاذ، إلا من خلال عملية جراحية كبيرة، غير ممكنة حاليا في ظل توظيف العصبيات المذهبية والطائفية في البلاد.
لا شك في أن المواطن يتحمل المسؤولية لأنه يعيد إنتاج الوحوش بطريقة أو بأخرى، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، وعليه أن يعي أن الحل لا يمكن أن يعطى هبة من الطاقم السياسي الممسك بالمؤسسات، إنما عليه أن يبدأ بنفسه، عبر التخلي عن كل الطاقم السياسي من دون استثناء، وتفعيل القانون، وإلزامية الانتخاب والاستفتاء على القضايا الكبرى، وشطب التمثيل المذهبي بالنيابة، وكذلك شطب المذهب عن الهوية، وإعلان قانون أحوال شخصية موحد، ومنع رجال الدين ومؤسسات المذاهب من التدخل بالشأن السياسي، والعمل بالقانون الصادر عام 1908 بشأن الجمعيات (الأحزاب) مع تعديل بسيط، وهو منع وجود جمعيات ذات صفة مذهبية أو طائفية، والعمل بالقرار 1936 بكل مفاعيله خصوصا الطائفة المدنية لأنه لا يمكن العمل بقانون بمزاجية، فهذا القرار معمول به لكن باستنسابية وليس كله، ومنع التحريض الطائفي، أي العمل بالقانون الذي أقره مجلس النواب اللبناني عام 1977 بعد تعديلات التي أقرت على قانون المطبوعات وهي "يعتبر تحريض كل كتابة يقصد منها الدعوة للإجرام أو التشويق إليه، وإذا نشرت احدى المطبوعات ما تضمن تحقير لاحدى الديانات المعترف بها في البلاد، او ما كان من شأنه اثارة النعرات الطائفية او العنصرية او تعكير السلام العام او تعريض سلامة الدولة او سيادتها او وحدتها او حدودها او علاقة لبنان الخارجية للمخاطر، يحق للنائب العام الاستئنافي ان يصادر اعدادها وان يحيلها الى القضاء المختص، وللمحكمة في هذه الحالة ان تقضي بالحبس من سنة الى ثلاث سنوات، ولا يجوز في اي حال ان تقل عقوبة الحبس عن شهرين والغرامة عن حدها الادنى. ومن حكم عليه حكما مبرما استنادا إلى هذه المادة وارتكب ذات الجرم أو جرما آخر يقع تحت طائلة المادة المذكورة نفسها قبل مرور سبع سنوات على انقضاء العقوبة أو مرور الزمن عليها".
كما ورد في المادة 317 من قانون العقوبات المعدلة عام 1993 أن "كل عمل وكل كتابة وكل خطاب يقصد منها أو ينتج عنها إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة يعاقب عليه بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات".
للأسف، هذه القوانين لم يعمل بها في لبنان، بل جرى نسفها من النواب والمرجعيات السياسية والدينية، قبل المواطنين، وبالتالي استفاد الطاقم السياسي الفاسد منها في شد العصب الطائفي والمذهبي، ما أدى وجود فوضى اجتماعية أنتجت فوضى سياسية لم يسبق لها مثيل في العالم.
من هنا فإن الفراغ في المؤسسات، سواء رئاسة الجمهورية، أو السلطة التشريعية، أو التنفيذية، أصبح مناسبة للمزيد من الابتزاز المتبادل بين القوى السياسية التي تستثمره لمصالحها كافة.
كاتب وباحث لبناني وصحفي بجريدة السياسة الكويتية