الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
فن ومنوعات

د. مارجو حداد تكتب: مسلسل "تحت الوصاية ".. هكذا تتعافى النساء!

الرئيس نيوز

صورة واحدة تساوي ألف كلمة، ومسلسل مبهر واحد يعادل مليون كلمة، هي قصة عن كيف يمكن للنساء حياكة المعنى على ثوب الغمام!، امرأة مقيدةٌ بالتفاصيلِ والممكن المستحيلِ وبالخوف والذكريات، عيونها تقول لنا: قلبي تحمّل فوق طاقته ولكن لم يعد يتحملُ أقول إني لم أخف؟، قد خفتُ والتبست رؤاي وكبوت ثم كبوت، لكني نهضت فصدقت عزمي قواي، والآن ها أنا ذي أسير إلى غدي جرحي معي لكن يقيني أنني قدمت أقصى ما استطعت وكل ما ملكت يداي !، وبالرغم من كل شيء أحب اطفالي والحياة ! وأدرك نعمة أن يمنح الله قلبي المزيد من الضوء حتى يرى ويمنح روحي المزيد من العزم! أحب معافرتي كي أواصلَ، و صبري تسامي عما كرهتُ وصمتي انهزامي لينتصر الآخرون، وأني وبالرغم من كل شيء تعافيت بالعفو والصبر إذ هكذا تتعافى النساء!.

حقَّق مسلسل "تحت الوصاية"، نجاحًا استثنائىًا من كتابة الثنائى شيرين وخالد دياب، ومن إخراج محمد شاكر خضير، بسبب قوة معالجته الدرامية وتكامل عناصرالسرد، بناء دراميّا مشدود، ثنائية الزمن والسرد في مسلسل الوصاية  لما لها من علاقة تكامل وترافد عميقة يعتمد عليها النص  بشقيه: المكتوب/ النص، والمرئي كونية القصة هي من كونية البنية العميقة التي تنتج ضمنها المعرفة البشرية، والتي تحيل الى مستوى الكينونة الباطنية البسيطة، قبل أن تتخذ سيرورة تركيبية معقدة تكسبها دلالات جديدة ومتباينة.

فكانت قوة السرد في التوجّه الجاد نحو الشخصية يبدأ من الذورة، بهروب حنان، وصرف النظر عن الحدث كمركز للثقل في النص أصبحت الشخصية هي حلقة الوصل، لذا صارت المسافة البؤرية قريبة وبعيدة في الوقت نفسه، معروفة وغير معروفة، ظاهرة وباطنة في آن واحد، وأصبح السرّ يُروى ولا يُقال ولا يُعرف، يُعرف ولا يوضَّح، وهنا كان التشويق متصاعد من حلقة إلى آخري، السرد البصري لشخصية "حنان"  بمستويات تعبيرية تشتغل بين ما هو ظاهر مرئي وبين ما هو غائب ايحائي، وقد جاءت المعالجة للمخرج لتعمق من أثرها الكبير داخل بنية المسلسل من خلال سرد الأحداث والصراع المستمر فى عالم الميناء، أو فى مواجهة عم طفليها، الذى انتقل فى مطاردتها إلى دمياط.

المكان والزمن السردي فقد كان مبنيًا على براعة المخرج فى اختيار أماكن التصوير الواقعية، ونقل تفصيلات عالم الصيد والصيادين حيث جاء توظيف المكان في المسلسل غاية في الأهمية، فقد اختار المخرج مكانا واقعيا وهو مدينة دمياط  وجاء تصوير أحداث المسلسل في أماكن واقعية ربطت الصراع  وعالم الميناء مع حياتها اليومية عبر لقطات من زوايا عالية ومتوسط وقريبة، لمست المتفرج وتعاطفنا معها، رغم أنها سرقت المركب، وربما يصل التفاعل إلى درجة التماهي في بعض الحالات.

تكثيف الزمن عند المخرج انعكس بصورة جدلية على الإيقاع مما سيطر على الحركة الداخلية للأحداث والشخوص، بصورة لائقة وواعية ساعدت على الغوص في المياه العميقة، بعيدًا عن السطحية، استخدم المخرج  الزمن المقلوب فلاشات قبل عناوين كل حلقة، على أن نبدأ من أول الحكاية والتذكرات التي تحيل إلى أماكن ماضية بعد موت زوجها و تلخيص سبب هروبها، إذ الاسترجاع يقودنا إلى أماكن أخرى مخبأة ومطمورة في ذاكرة الشخصية أو أنها تقع ضمن الأماكن الشخصية والسرية التي لا يمكن بلوغها بيسر وسهولة صراعٍ مستمر ماضيا وحاضرا، مما زاد من عنصر التشويق وعمل على توضيح الأسباب السيكولوجية للبطلة، وهي تسترجع ذكرياتها، وقد بلغت أوج مأساتها، وفي تمزقات متتابعة، التي قادتها إلى الذروة من اليأس والضياع إلى ذروه أكبر وصولا إلى القبض على حنان، والحكم بسجنها، وعلية كانت دورة الزمن تقوم على تصاعد في نمو المكان وتحليله من خلال الإحالة من المفردات المكانية في صلة عميقة ومؤثرة وهذا يحسب للعمل، وعلية كانت العلاقة بين الإيقاع والزمن متصاعد في البناء الدرامي، يبرز الإحساس العميق والنابض بالحيوية، في تناسق العلاقة وتبادلها بين الفترات الزمنية، التي تستغرقها اللقطات من حيث الطول والقصر، السرعة والهدوء، لما يمثله من نسيج حيوي، يوحد العلاقة بين مختلف عناصر المسلسل ليخلق في النهاية فنًا متماسكًا وبلغة بالغة التأثير.

أهمية المونتاج كانت في إدخال السرد الذاتي بشكل طبيعي في الفيلم، وخلع الحدث بمرور وحدة الأسلوب، إلى جانب كونها إحدى الطرق التعبيرية الملائمة للسرد، وتسمح بالمحافظة على وحدة الزمن، في أن تجعل الفترات الزمنية الأخرى والأمكان الدرامية تخضع وتشمل الحدث الدرامي الأكبر والرئيسي في الفيلم، فتتعمد عرض اللاوعي في الوعي (الحاضر) وعرض الأسباب والأحداث طبقًا لبنائها المنطقي، وترتيبها الدلالي. 

وفي النهاية تعمل على تركيز الفيلم كحاضر، هنا الوعي ديجيتيكي أساسي ومؤثر، مما ساعد على تفسير الأحداث وقدم رؤية لا يمكن أن تتم دون عملية المونتاج  مما حافظ على عنصر الإثارة والتشويق والجذب البصري للمشاهد، وتوفر في المونتاج عناصر لخلق الزمان منها عنصر التسلسل حيث كانت ترتبط اللقطات من غير أن تثير الارتباك عند المشاهد، بل توضح الفكرة باستمرار، وعنصر الدرامية من حيث تغير معدل القطع للحصول على التعبير المطلوب في التوتر الدرامي، وعنصر الزمانية حيث القطع إلى لقطات وتغطية الفواصل الزمنية بين اللقطات المتتالية للحركة لتوحيد انفعالات المتفرج العاطفية، وهناك عنصر التنويع في الصورة والإيحاء باستمرار الحركة بالإكثار من تقاطيع اللقطات وبتغيرزواياالتصوير للجزء الواحد من الحركة.

للصمت قيمة جمالية كبيرة في مسلسل "تحت الوصاية"  وتوظيفه دراميا أي أن الصمت كان قوة ايجابية في عدد من المشاهد فالصمت يجعل الصورة تعبر عن نفسها من خلال البعد المكاني ولغة الأشياء، وأيضا المحددات المكانية المتمثلة في الضوء واللون مما جعل المشاهد يفسر المشاهد كما يريد وهذا ما زاد المسلسل شاعرية وجمالية.

اللباس كنظام دلائل في مسلسل "تحت الوصاية" امرأة على قارب مع رجال تغادر الفنانة  "منى زكي" كل مظاهر أنوثتها، لتقدم فهمًا عاليًا لثقافة جسد الممثل الذي لابد أن ينسجم مع روح شخصيته هي نصف رجل ونصف امرأة في جسد واحد وعليه يتحول اللباس من كونه فعلا عاديا واعتياديا إلى أن يصبح علامة ذات دلالات مركبة وليس من الضروري أن تكون هذه الدلالات منطقية أو ذات ترابط سببي، بل يكفي فيها أن تدخل في ملابسات معنوية بمعنى أنها تدخل في نظام من العلاقات تنشأ حولها وتتداخل معها، امرأة تريد أن تنجح فى إدارة مركبها و هنا يكون التميز بالاختلاف ولكن الانتماء بالتشابه، رمزية الخطاب في مسلسل "تحت الوصاية" من خلال الصورة كانت مختلفة عن بقية المسلسلات خصوصًا اغلب المسلسلات المصرية  ذكورية، تقدم المرأة  في الغالب كمجرد أنثى، وتكرس الزوجية بمفهومها الخصوبي والأمومة بمفهومها الإنجابي  ولا تسمع للمرأة بالتعبير عن نفسها.

براعة ورؤية المخرج كانت في اختيار الممثلين والممثلات منهم مبدعون استثنائيون، المبهرة منى زكي طاقة مذهلة  تؤدي بقدرة عالية من الاقناع والإدهاش شخصية " حنان " هو بحق نقطة الوقوف في مسيرتها، ثم  تغييراسمها إلى ليلى،ليس دورًا فقط هذة ثمار خبرة سنوات سطرت الأمومة إبداعًا، أبهرتنا كما لو أنها سلّمت جسدها لإيقاعات الحدث، لتأتي بنقيض صورتها الذهنية كما كرستها في كثير من أعمالها، تربط الذكاء الانفعالي حول انفعالاتها، مع الابتكارية الانفعالية بكيفية التعبيرعن الانفعالات بدقة وتفرد وأصالة وفاعلي، بما يسمح بتعزيز وتطور الشخصية وعليه كان الاهتمام عند منى زكي، ليس فقط بالجهاز الداخلي المنتج لعملية المعايشة بل كان الاهتمام بالجهاز الجسدي الذي ينبغي له أن يعطي النتائج الإبداعية للمشاعر، وأن يعطيها شكلًا خارجيًا عند التجسيد كل ما كان يعنيها هو الشخص الماثل أمامها على الشاشة، ووفق هذه الرؤية يكمن معنى نجاح الشخصيات التمثيلية التي يبرزها مؤدوها على حساب إبراز شخصياتهم الحقيقية أمام الكاميرا، حنان الشخصية التي تقول أشياء هامة عن إنسانيتنا الضائعة وعن أحلامنا التى نتركها فيتحول الألم إلى قربان، وهذه الأنوثة الناقصة أو الرجولة الطارئة عليها، كانت لابد من أن تنعكس في لغة جسدها، فتظهر في طريقة مشيتها وتشنج عضلاتها وإيماءات وجهها، كما ستظهر أيضًا في سلوكها النفسي، حين تردم إحساس الأنثى فيها لا تقتله، إذ سرعان ما تستعيد أنوثتها كاملةً ما أن تشعر بالحب كمشهد افتتاح المطعم، اهتمام "حنان" في الوالدية الحنونة  Compassionate Parenting وهي الاستجابة الانفعالية وتفاعلها مع أبناؤها، وذلك من خلال تقديم الأساس الانفعالى الآمن لاكتشاف وفهم طبيعة انفعالات الأبناء، والتعاون معهم وتقدير ذواتهم والسماح لهم بأن يكونوا أنفسهم وهذا طبعا نابع من وعي "منى زكي" والفهم العميق للتضاريس الشخصية، منح البناء الدرامي حيوية وثراء بتجسيد مرهف لذا يستحق هذا الجهد وهذا الطموح كل الاحترام مهما تعددت الرؤى، "منى زكي" انت رهان مستمر.

رشدي الشامي: فنان استثنائي هذيانه ومظهره الرث نوع من الخلاص بالجنون الذي رسم ملامحه بخطوط لا تنسى فكان السرد على لسان "الريس ربيع" متدفقا ومستمرا، ولاهثا بلا توقف أو فواصل وكانت الشخصية لها تأثيرها كالرصاص على المشاهد عيناه تنطران إلى الداخل وليس إلى الخارج وهنا تكمن البراعة في رسم الشخصية، أدهشتني قدرة الفنان رشدي على الإمساك بشخصيتة مع تحقيق الإشباع والتفصيل اللازم، أسرار شخصيتة بين البساطة الظاهرية،والبحث عما وراء هذه البساطة ليس سوى حيلة ذكية وماكرة ولكنها تتوسل بالخيال لكي تجعلك ترى واقعك أفضل وأعمق، إنه ذلك الفنان القادرعلى تجسيد مقولة فيروز: يبكي ويضحك لا حزنا ولا فرحا فيقدم لنا شخصية كوميدية أحيانا لكنها من فرط عمقها قادرة على جعلنا نضحك ونبكي في آن واحد.

وهناك الاستثنائيون الأطفال الموهوب "عمر الشريف"  يجسد دور "ياسين "كانت معالجة ذكية خصوصًا في أسس بناء شخصية الطفل والمعالجة الاخراجية لها ليس بالأمرالبسيط انها بحاجة الى دراسة فكانت المعالجة الاخراجية لشخصية الطفل في مكانتها اللائقة داخل المشهد الدرامي.

معالجة جريئة وذكية في حق الأم بحضانة أطفالها وإنْ انحازت القوانين للأب في المجتمع والوصاية الذكورية

مسلسل "تحت الوصاية" معالجة جريئة وذكية في حق الأم بحضانة أطفالها وإنْ انحازت القوانين للأب في المجتمع والوصاية الذكورية رغم مسحة الكآبة الطافحة على "حنان"، فقد قدّمت آلام الأمهات يمرّر المسلسل رسائل نبيلة بصوت صريح، لا يكتفي بالتحوّل مسرحًا لغلبة المبالغة وسطوة البطولات؛ بل يتبنّى مواقف ويُذكّر بقضايا تمسّ الصميم، تستوجب التحديث وإعادة النظر، فالنهاية الحتمية لها، والحوارات في قاعة المحكمة مصنوعة من شظايا، كأنه اعتمد سيناريو منفصلًا مختزلًا وكل ما يحدث هو ربط لتلك الشظايا ببعضها البعض، فنحن في مجتمع ذكوري بامتياز الاضطهاد القانوني الذي ينبثق من الاضطهاد الأبوي والذي ينعكس في القوانين الوضعية والعرفية التي تضطهد دور المرأة في حقوقها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو ما يعيق تقدمها ومساواتها مع الرجل في الإنسانية.

هذا هو الفن والفنان الحقيقي ومنذ الخليقة نبض الشارع.. ضمير الأمة.. حارس الأمل.. في وجدان الإنسانية  وغير ذلك يكون صانعًا للجهالة، خاذلًا للإنعتاق وصناعة المعرفة، راكبًا أكتاف اللهو ورذيلة الأنا، وراكعًا للسلطة، وشهوة النفس وملذات الجسد، تغرقة النجومية في سراديب ثقافة السادة والعبيد مع جمهوره، وهنا يكون قد صنع نهايتة، جاثيًا في فراشة كما يموت البعير.

محمد شاكر خضر جعلت تحت الوصاية تنتج وصايا حب وجمال وتحذير ستبقي لوقت طويل في ذاكرة الناس برؤية بصرية مذهلة اما حوار منى زكي في نهاية المسلسل  بقاعة المحكمة صوت مخطوف من الزمن ومصادفاتة، فكان نقاء الحس الجمالي ورهافتة وسط الألم والسؤال ؟!.

د. مارجو حداد

دكتورة بالجامعة الأمريكية - قسم صناعة الأفلام