د.مارجو عطاالله تكتب.. الخطاب المرئي في "سرهُ الباتع" والزمن التأثيري
جميلة هي اللحظات التي يتم فيها الاحتفاء بالإبداع والمبدعين، وبما أن هذه اللحظات كلقطات قليلة وسريعة ولازمة، سأحاول أن أقبض على بعض من جمالياتها، في مسلسل "سرة الباتع " تجربة أنجزت بالحب وسعت لتلتقط روح الفترة بكثير من تفاصيلها، ميزها الشغف لصنع الأفضل، ووعيا بالنص المكتوب وإحساسا بالمشهد أنها مؤثرة وعاكسة تجلياتها في بقية مكونات الثقافة الشعبية.
زمن شهد بطولات الشعب المصري في مواجهة الاحتلال الفرنسي، من خلال حامد الذي حوله الخيال الشعبي إلى السلطان حامد، وبعد رحيله بسنوات طوال يأتي الطفل حامد ليبحث عنه، فكانت عناصر اللغة الفنية ضد الأزمنة الضعيفة، بمعنى أنها لا تتعامل بالاسترسال في تفهيم ما هو مفهوم، الإيجاز بالإيحاء الصوري والإيقاع الحي، والتكثيف والحور المجازي تارة والمباشر تارة أخرى، وهم أساس السيناريو الشيق.
دراما متميزة عرفت كيف تحقق جماهيريتها من دون التنازل عن اشتراطاتها الفنية، وعن دورها كوسيطٍ ثقافي بالقدر ذاته الذي تكون فيه وسيطًا ترفيهيًا، فكانت دراما "سرة الباتع" التاريخية الاجتماعية، وقد زادها سحرًا نزوع المخرج خالد يوسف وفهمه المعرفي، وقلقه الإبداعي، الدور الأساسي في حفظ (المختلف) إلى تحليل الحدث التاريخي، وعدم الاكتفاء بإعادة سرد تفاصيله المحفوظة في الكتب، أو بقراءة ونقل روح المبدع الكبير يوسف إدريس، ولكنه دفع إليها بأسئلته الخاصة.
جمالية الصورة البصرية في المسلسل تكمن كوحدة شكلية للمكان من حيث طريقة تصويره وزاوية التقاطه وجمالية الصورة تهتم بمدى توفيق المخرج في استخدام اللقطات وأنواعها ومدى تناسبها وتجانسها، وأيضا زوايا التصوير وحركة الكاميرا.
وكذلك إدخال المفاجآت بطريقة مباغتة في الصورة والمخرج لا يوجه الاهتمام إلى المزايا الشكلية للشيء نفسه فحسب بل كذلك إلى صفاته الشكلية وهذا ما يأتي عن طريق حسن اختيار حجم اللقطة كون المخرج سينمائي فاللقطة السينمائية لابد أن يكون لها حجم يتحدد هذا الحجم وفق الخيال، أو الجمالية الوظيفية كالعناصر الخاصة بالجمالية والتي تحقق جمالية للصورة حسب المعايير المتبعة أو المتفق عليها في خلق التأثير عند المتلقي كتنظيم حركة الممثلين وتوزيع مكونات الصورة من أحجام وكتل وأشكال وألوان، أو تنظيم آلية الالتقاط التي يمكن أن تضفي طابعا جماليا للصورة بحكم المتغيرات التي تحققها في الالتقاط فالتصوير الجمالي ليس مجرد تقليد بل هو إبراز إحساس معين أحس به المخرج ويريد أن يبرزه كخصائص ذاتية هي التي يمكن أن نطلق عليها جوهر الموضوع أو الروح الجوهرية الجمالية في الشيء. وهذا ما ميز المسلسل.
جمالية الألوان تعتبر الألوان ذات أهمية بالغة في صورة مسلسل "سرة الباتع"خصوصًا في المرحلة القديمة حيث تساهم بكيفية فعالة في إبلاغ الرسالة بشاعرية لجذب انتباه المشاهد وخلق جو وجداني وانفعالي، وتكمن جمالية الألوان في حسن استخدامها؛ فيمكن خلق الجمالية عن طريق تباين الألوان وهو التضاد، فالأبيض هو نقيض الأسود ويلعب التباين دورا كبيرا في تغير مساحة أو حجم الأشكال وإبرازه والإضاءة ملازمة لعملية التصوير وهي تقوم بالتغير في المظاهر الخارجية للأشياء وهذا هو مفتاح وظيفتها الشعرية وتكمن في ثلاثة دعائم؛ الكمية: فكمية الضوء لها تأثير جمالي على حسب الحاجة وحسن تقدير المخرج ومدير التصوير "أحمد يوسف"، فالأضواء تختلف ألوانها ومصادرها وإسقاطاتها على مناطق التمثيل توزيعا سليما أيضا هناك جمالية الألوان في تجسيد البعد السوسيوثقافي.
تقسيمات الزمان في الخطاب المرئي تظهرمن حيث الزمن الدرامي كما تفرضه مقتضيات الحبكة، ورسم الشخصيات والموضوع وغيرها من ملامح التطور والبناء الدرامي تؤسسه وتبنيه أحداث ضخمة مثل حملة نابليون، تحذف مراحل من الحدث ولا تصور كلها وهو مقنع وكاف من الناحية الجمالية إن دورة الزمن تقوم على تصاعد في نمو المكان وتحليله من خلال الإحالة من المفردات المكانية في صلة عميقة ومؤثرة، فضلا عن ذلك فان الزمن يعكس خصائص مكانية محددة من خلال السياق التاريخي حيث أن التاريخ يجعل للأماكن خصوصية مميزة يكون فيها الزمن أداة للتعبير ولتعزيز البناء المكاني والزمن التأثيري متناسق الأحداث ليكون لها تأثيرات معينة على إحساس المتفرج الذاتي بالزمن ومن ثمة تنفذ بعض المناظر المعتمدة على ترتيب وسرعة الأحداث فكان لها تأثير خاص.
جمالية المونتاج المتوازي والتكوين بين زمنين مختلفين ذلك كله بالاستناد إلى نصّ يعزف على وتر حقبة مجيدة يحلو تناقلها وهو مستوحى من قصة قصيرة للأديب الكبير يوسف إدريس (معالجة درامية وسيناريو وحوار وإخراج لخالد يوسف) وزاوية مغايرة لطرح إشكالية حقبتين، الأولى وقت الحملة الفرنسية ودفاع المصريين المستميت عن أرضهم ضد الاحتلال، والثانية عام 2010 حيث يحاول البطل تتبع سيرة "السلطان حامد" أحد الرجال الشجعان والمستبسلين في وجه الطغيان. ربط المواقف الواقعة في نفس الوقت وهو يجعل الأشياء جنبا إلى جنب دون أن تكون هناك صلة في الزمان والمكان الواقعين في الزمن القديم على الإطلاق لكن هناك ربط رمزي من حيث العلامات والدلالات، وهذا يؤدي إلى وهم جزئي وجمالية فنية من حيث تأثير الحدث الفعلي وتأثير الصورة فيشعر المشاهد أن سياق المشاهد المختلفة من حيث الزمان والمكان لا يتم بطريقة تعسفية. والقيمة الجمالية لاختزال المكان والزمان عن طريق المونتاج أثارت بعض المواقف وتصاعد البناء السردي، إلى انعكاس مناخها الخاص في الإكسسوار والأزياء للمصممة (مونيا فتح)، والتوغّل البديع للموسيقى بروحية السياق وتشعّب خطوطه تأليف الموسيقار راجح داوود، لتتر مميز من كلمات مصطفى إبراهيم وغناء محمد منير حيث جمال الكلمات وحساسية صوت منير، وهي الأغنية التي لعبت على وتر حب الوطن وتاريخ طويل من المقاومة كلها دعائم قوة وسط تفوّق الجغرافيا المصرية بامتدادها ومشهديتها المذهلة. العمل تظهر جمالية الأشياء في ترتيبها في حيز الشاشة وخلق الإحساس بثلاثية البعد وهذه الأشياء يحركها عقل المخرج وإدراكه وإحساسه؛ فيضيف لهذه الأمكنة معنى وتعبيرا جميلا بلغته السينمائية والبناء المكاني في "سرة الباتع هي: المواد والأشياء والأجسام الموجودة في المكان بألوانها وإضاءتها، فمصمم الديكور (باسل حسام) يعطي للأشياء والأشكال نمطا تعبيريا خاصا في وجود مؤثرات بصرية وهكذا تصبح لها دلالة ومعنى ووظيفة جمالية.
وهناك القيم الثقافية في الخطاب المرئي"لسرة الباتع" خاصة أنه يستعمل اللغة والموسيقى واللون والإيقاع وحركة الكاميرا والممثل والسرد التناوبي لمداعبة خيال المتلقي، والتأني عليه لترسيخ سلوكيات ما، وهكذا يتصاعد البناء لدرامي بتآلف الأشكال اللغوية والأشكال البصرية وينبغي أن نلاحظ كذلك أن هذا التراث أو الموروث الثقافي في المعالجة الدرامية لخالد يوسف ليس هو كل الماضي، وليس هو لحظة تاريخية معينة من الماضي بل هو الماضي الذي يحي فينا وبنا لأن هناك ارتباط وثيق بين مفهوم التراث ومفهوم الهوية. حتى إن مفاهيم الذكورة والأنوثة في المسلسل مرتبطة بالثقافة أساسا بالمجتمع والتاريخ، إذ أن مجتمعا معينا يعطي لهذه المفاهيم بعدا خاصا مقرونا بنوعية علاقة الأفراد والجماعات التي تكونه وبتاريخ معين لأن الثقافة تتميز بالديناميكية على المستوى الزمني، النَفَس الملحمي التاريخي يكثّف الرغبة في الاكتشاف. فالموروث الشعبي البطولي يحرّك الفضول ويكرّس عنصر الجذب. وعليه كان الخطاب في "سرة الباتع" جزء لا يتجزأ من الثقافة لذا لا يمكن الإحاطة به إحاطة فعلية من منطلقات أحادية الجانب كتلك التي ترتكز على الجانب الفني أو الجمالي أو التقني دون ربطه بالإطار السوسيو-حضاري وعلية كانت هناك ابعاد ودلالات مكانية مجسدة في الصورة البصرية.
عن أبرز شخصيات “سره الباتع”
جمالية الشخصيات في " سرة الباتع " ترتبط من طريقة استعمال، واستخدام الوجه والملامح وطريقة الجلوس، جمالية اللباس خاصة اللباس ذو الأبعاد الثقافية فهي الصور التي ترغمنا على تذكر ماضينا الأكثر بعدا، بقيادة شخصيات تتبارى على الإبهار. النتيجة: فراشة تخرج من شرنقتها. مبارزة " احمد السعدني " بدور"حامد "و"حنان مطاوع " صافية " في القمة. قافلة المتميّزين في أدوارهم تشمل “حسين فهمي” "ايمن الشيوي" "محمد عبد العزيز"، " هالة صدقي " وآخرون، حاول الغالبية تقديم أدوارهم باحترافية، إذ كان أفضلهم.
أحمد السعدني: أسطورية الأبطال. وهذا يمنح «السعدني» بُعدًا بشريًا يخدم تصديق واقعيته. هو رمز للشعب المصري وحقيقة أوضاعه، الأن وقد استيقظ وعيه، ولا يمكن لأية قوة أن توقق مساره. واحد من كثيرون يجيدون القراءة الدراماتورجية لأدوارهم ولكنه من القليلين أيضا الذين يحولون قراءاتهم تلك الى سحر في الحضور وغنى في المقترح التمثيلي للشخصية. شخصية حاضرة بكل ثقلها لرسم ملامح وعلامات الخريطة البصرية للمسلسل بل كان العمود الفقري مما خلق نوعا من التفاعل الوجداني فلامس الجانب الروحي في المتلقي حيث ساهم مما صدر عنه من أفعال وحركات وحوار في بناء إيقاع داخلي وأن ينسج ثوبه الرمزي والجمالي بشكل مذهل. خلف العنف تكمن نظرة رومانتيكية بل ومثالية تحلم بإنسان جديد يحارب الجشع وهو الذي ينقل الأحداث والتحولات من العمق من خلال عيون تراقب وتتألم ويشعر بعمق هذا الفنان الذى يبدو بسيطا ولكنة ليس كذلك ممثل يتقن ادواته الفنية من خلال لعبة السرد لديه حساسية عالية في التقاط التفاصيل تكاد تلمسها من فرط دقة وصفها واستحضارها.
حنان مطاوع: ذروة الحضور النسائي المؤثر تقتنصها حنان، دور عابرًا للفنون بين السينما والمسرح والتلفزيون. وحدهم اهل المهنة الكبار، الكبار فقط، يعرفون معنى ان تجمع في أدائك اشتراطات كل هذه الفنون في وقت واحد.
ممثلة مدهشة بحجم أسئلتها وبدرجة نجاحها الفني تمتلك عاطفة تجعلنا نستدعي الجنة إلى الأرض، تجمع التفاصيل لنتأملها بجوار بعضها البعض لديها القدرة على الدهشة والبساطة المتجددة بأن تري تفاصيل لأول مرة وكأنها تقول لو لم امثل لأصابني الجنون.
تربية المشاعر وتهذيب الحس وتراكم معرفي تلك إلى سحر في الحضور، وغنى في إبداع الشخصية، مدرسة أدائية تستحق عن جدارة ان تكون النجمة المتميزة والمبدعة والمدهشة.
هالة صدقي: الدور النسائي المكثف أم حامد كيف للكثيرات اليوم أن يقبضن على لحظة ألم كالتي يبوح بها وجه هالة لطالما آمنت أن أصعب الأدوار تلك التي لا تتطلى خلف مكياج، شخصية شكسبيرية تاهت عن عالمها الأصلي لكن لا ترتكب خطأ يؤدي إلى هلاكها تعيد تأمل العواطف والأفكار إلى مشاعر أقرب إلى الوجد الصوفي تجعل للكلمات ألوانا ضحكتها لمعة مسروقة من خلف حوائط تسكن الروح فتصهل الأحلام الموجعة. هالة صدقي يعنى أن تكون بسيطًا وعميقًا بآن معًا، أن تغيب فيزداد حضورك،هي أن يذكرك الغريب كلما حن إلى وطنه مثلما يفعل مع أوابده الخالدة!.
حسين فهمي: الاختيار حرفة بالتأكيد وجزء من مهارات فن الممثل وحساسيتة. من أصدق الشخصيات التي أداها، الراوي أو كليمان عالم فرنسي، شخصية ثرية مليئة بالخطوط الدرامية، حمل هذا الصوت الداخلي نبرة "البوح الذاتي"، الموجه للذات والآخر معًا، والذي يُظهر رغبة صاحبه في أن يتجاوز أزمته، أو على الأقل يعبِّر عنها بوضوح.كأنها أيضا سيرة للصمت، أو الخطاب المكبوت في اللاشعور. وقد أثبت كيف يكون الممثل فنانًا بالروح لا بالمعنى المادي للمهنة وأن يؤدي شخصياتة التمثيلية بتوق البدايات رغم سنوات تجربتة الفنية الطويلة.
أيمن الشيوي: دور نابليون بونابرت، الفهم العميق لمستويات الشخصية لايحاول توصيل الطبيعة المادية للشخصية فقط انما الطبيعة الروحية ايضا. يعمقها ويؤكد على تعددية أبعادها، ومن هنا ينبع التنوع المدهش والصدق فى تجسيد الشخصيةلا انفعالات في غير محلها، وإنما بالذهاب إلى ميدان اللعب التمثيلي بعيش حياتين، واحدة لعوالمه الداخلية التى تعج بالمشاعر والانفعالات الشخصية، وأخرى خارجية هي التي يطل عبرها على الناس هارموني بليغ للعواطف المتناقضة، وعلية لا يحتاج الممثل المبدع لأكثر من مشهد واحد ليقول هأنذا.
أحمد عبدالعزيز: شخصية الحاج شهاب كان على موعد مع شخصية جديدة من طاقتة التمثيلة ومتعة اكتشاف جديدة نموذج مثالي يكشف مدى قدرة الممثل على الإحساس الداخلي بالدور وتفكيكة وقراءة أبعادة لإنتاج انفعالات جديدة وسط شر نسبي وحركة مقيدة بسينوغرافيا جسدية ونفسية متلونة ومتشابكة بآن معًا، فيضحك الشر ويتكلم الصمت ويتحرك الجسد، اعتمادًا على وسيلة ثابتة هي "لو" السحرية. هذا مذهب ستانسلافسكي وهذا الفنان أحمد عبد العزيز المبدع.
كم نحتاج إلى نضوج المبدع الراصد أو إثارة أسئلة كبرى في عقولنا، كانت توجيهات "خالد يوسف" عميقة التأثير ليس بصفته أحد أهم المخرجين؛ بل لكونه فنّانا مثقفًا يملك رؤيةً للماضي والحاضر خاصة به، ومَن يمتلك رؤية الماضي يحوز، بَداهةً، اجتهادًا مثقفًا للحاضر – امتثالًا لمنطق أنَّ حاضرنا إنما هو طفلُ ماضينا.
"سرة الباتع" الصورة التي تعبر عن الوجدان والحس الانساني والجمالي، الصورة الدرامية التي توثق الحياة بكل أشكالها وألوانها عندما يكون عقل المخرج وإدراكه وإحساسه بـ "علم الأداء الفني"؛ وأن يكون صادقاّ للحقيقة والجمال والدهشة والإمتاع، ويحدث تعبيرا جميلا بلغته الاخراجية فيرتبط البعد الجمالي في جمالية الشخصيات والأزياء والديكور والمكياج جمالية الألوان والإضاءة، جمالية الصمت، زوايا التصوير وحركة الكاميرا والسيناريو، الخ، هو ما يفعلة كل فن عظيم، إنه يعطينا طريقة جديدة لرؤية ما اعتدنا أن نرأه.
دكتورة بالجامعة الأمريكية - قسم صناعة الأفلام