د. حسام فاروق يكتب: لم تعد "هنا لندن"
في مرحلة مبكرة من حياتي، قبل دخولي الجامعة تأثرت براديو BBC عربي، وأصوات المذيعين والمذيعات فيه وكنت أحفظ أسماءهم وجنسياتهم وأميز نبرات أصواتهم وأنتظرهم في مواعيد نشراتهم وبرامجهم، التي كانت شيقة ومختلفة بالنسبة لي، وأستطيع أن أحدثك بإعجاب وحب عن الأساتذة محمد الصالح الصيد وجورج مصري وحسام شبلاق ورشاد رمضان ومحمود المسلمي وأيوب صديق وعلى أسعد وماجد سرحان ونور الدين زورقي وحسن أبو العلا وسلوى جراح وهدى الرشيد ومديحة المدفعي وعفاف جلال، لكل اسم من هؤلاء رحم الله من رحل منهم وأمد الله الباقين بالعمر والصحة، مذاق في السمع، ومدرسة في الأداء.
فلا أحد ينكر أن هذه الإذاعة العجوز كانت ذائعة الصيت، واسعة الانتشار، ولا أحد ينكر أيضا أنها اختلفت في الطرح، وضمت عددا كبيرا من آباء المهنة المحترفين، ومن الحناجر التي قلما تتكرر عبر الأثير.
بعد دراستي للعلوم السياسية وتخصصي في الماجستير والدكتوراه في الإعلام السياسي وتحليل المضمون، وبعد أبحاث وتجارب كثيرة من المتابعات وسماع التسجيلات والمقارنات للربط بين السياسة والإعلام، بدأت أراجع فكرتي حول مضامين الرسالة الإعلامية لإذاعة بي بي سي عربي التي فُتِنت بها لسنين طوال، وأقصد بالمراجعة هنا محاولة التقاط الرسائل غير المعلنة للسياسة الإعلامية للإذاعة، ومواقفها من العديد من القضايا الدولية خاصة العربية منها، لأجدني أسمع من خلف مضمونها الاحترافي وأصواتها الشهيرة صوت آخر خفي لمضامين أخرى، لا أبالغ لو قلت إنها كانت تبدو مخيفة وصادمة بالنسبة لي.
راديو بي بي سي عربي بدأ البث بالعربية في العام 1938م، كرد على إطلاق إيطاليا ل إذاعة "باري" بالعربية في العام 1934م في محاولة إيطالية لمنافسة النفوذ البريطاني والفرنسي، والتأثير في المنطقة العربية وكان راديو باري يهاجم مواقف بريطانيا وفرنسا تجاه القومية العربية وقضية فلسطين، لكنه لم يستمر طويلا في البث وغاب عن الوجود بعد هزيمة الطليان في الحرب العالمية الثانية.
bbc عربي كانت إذاعة“ مؤدلجة ”لم تغرد بعيدا عن سياسة بريطانيا
في رأيي أن BBC عربي لم تنج عبر تاريخها الطويل من "التأدلج" ولم تغرد أبدأ بعيدا عن سياسة بريطانيا كإحدى أكبر قوى الاستعمار القديم ومصالحها، حتى لو تعارضت الأخيرة في حالات كثيرة مع قيم الحق والإنصاف والعدالة!!.
نعم كان لراديو بي بي سي عربي سياسة "غير معلنة" مثلما ورد في كتاب "أخي العزيز: مراسلات حسين وجلال أمين: الجزء الأول: 1950-1960"، والتي جمعها وحررها كمال صلاح أمين، حيث كان الدبلوماسي الراحل حسين أحمد أمين يعمل مذيعا بالإذاعة البريطانية في تلك الفترة.
كان راديو بي بي سي عربي ذراع ناعمة للسياسة البريطانية الاستعمارية وتعمل بمنتهى المهنية على خدمة أهداف بريطانيا والترويج لمصالحها في المنطقة العربية، وفي فترة الخمسينيات عقب ثورة 23 يوليو1952، وجلاء الإنجليز عن مصر كان أثير بي بي سي عربي مسخرا للهجوم على الدولة المصرية، وربما هي أوضح فترة لم تستطع فيها الإذاعة المخضرمة ضبط النفس وإحداث التوازن الشكلي الذي كانت تدعيه بين دورها كوسيلة إعلام ينبغي أن تكون مستقلة ومنضبطة وغير متحيزة مثلما كانت تروج، وبين تبعيتها للدولة التي تنتمي إليها وتبث منها، فخرجت على سبيل المثال عن سياق "المهنية المزعومة" في هجومها وتطاولها الصريح على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وهو ما دفعه للرد علنا في خطاب جماهيري شهير قام فيه بسب الإذاعة.
كما برزت السياسة غير المعلنة للإذاعة البريطانية أثناء العدوان الثلاثي على مصر في 1956 عقب قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس، فلم تقل "عدوانا" ووصفته ب "أزمة السويس" أو "حرب السويس" أو في أفضل تقدير قالت "الهجوم الثلاثي"، وفي تلك الفترة أقدم العديد من الإذاعيين المصريين الذين كانوا يعملون بالإذاعة البريطانية، على تركها ومنهم من استقال على الهواء، بعد أن انكشفت تلك السياسة العدائية المخفية تجاه الشعوب العربية ومنها مصر، ومن أبرز من استقالوا على الهواء كان الفنان محمود مرسي الذي كان يعمل مذيعا بها قبل أن يحترف التمثيل، فعقب العدوان الثلاثي على مصر خرج على الهواء عبر أثير بي بي سي عربي ليعلن نصا: "هذه هي آخر حلقة أقدمها في هذه الإذاعة، حيث إنه لا يمكنني أن أعمل أو أقيم في دولة تشن حَالِيًّا عدوانًا على بلادي، وتلقي بقنابلها على أهلي في مصر، ولتلك الأسباب أقدم استقالتي على الهواء، وسوف أعود إلى بلادي أقاتل بجانب أهلي، أعيش معهم أو أموت معهم".
لم تتخل الإذاعة عن تسييس رسائلها واستخدمت لسنوات طويلة تأثيرها في المستمعين
وعلى مدار السنين، بجانب المهنية المعهودة ل BBC عربي على صعيد تحرير وصناعة ونقل والرسائل، لم تتخل الإذاعة عن تسييس رسائلها واستخدمت لسنوات طويلة تأثيرها في المستمعين لطرح تقييماتها للقضايا خاصة العربية منها لترسيخ أفكار ومعتقدات بعينها في الذهنية العربية، مما ترك أثرا سلبيا تراكميا لدى أجيال لم تلتقط هذه الرسائل المخفية؛ خاصة هؤلاء الذين تعلقوا بصحفييها المؤثرين الذين وُضعوا في مصاف النخبة والتي صنعت بدورها نخب من المثقفين "المؤدلجين" أيضا، واللافت أن كل هذا كان يحدث باحترافية شديدة تجعلك تشك أن هذا العدد الكبير من الأصوات الكبيرة التي تعمل تحت علامة "هنا لندن" هي نفسها لا تعلم أنها مأخوذة للسياسة دون أن تشعر.
اليوم BBC عربي تنهي رحلتها عبر الأثير، لا حديث واضح عن الأسباب، فقط اجتهادات: هل شاخت الإذاعة بالقدر الذي لا يسمح لها بتأدية دورها المعلن ودور ها الخفي؟ أم أن الإذاعة العجوز وجدت نفسها فجأة في عالم رقمي غريب وسط مخلوقات إعلامية أكثر سطوة أبرزها الوسائط الاجتماعية، لم تستطع التعايش معها؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه ترشيد للنففقات؟ أو بالأحرى إعادة توجيه للنفقات في منطقة أخرى من الإعلام البريطاني؟، كما لا نعلم نحن الذين أحبوا بي بي سي عربي صغارا واكتشفوها كبار هل نحزن على رحيل إذاعة شاركتنا صبانا بأصوات لم نسمع مثلها من قبل؟ أم نفرح لغيابها لأنها كانت في فترة من الفترات جزءا من المخطط الخفي ضد بلادنا ومنطقتنا أو بمعنى آخر باب أتى من الريح وها هو انغلق ولنستريح، النتيجة في كل الأحوال أننا لن نسمع فيما هو آتي العبارة الشهيرة "هنا لندن".
أخيرا: على الصعيد المهني، غيابها خسارة، وأقصد بالمهني فقط الأداء وشخصية مذيع الأخبار ونوعية الأصوات وسلامة اللغة والنطق، لكن على صعيد المضمون فالسياسة كانت حاضرة والنوايا لم تكن خالصة.