ذكرى رحيل عبدالباسط عبدالصمد.. «صوت السماء» ما زال يصدح بالقرآن
يمتلك مزمار داوود الذي أشبع الدنيا بالقرآن ونشره بكل جهد منه واهتمام بالغ، ذو الصوت العذب الذي ينشرح له الصدر حينما يستمعله، وتغيب العقول تدبرًا وتأملًا في كلمات الله عز وجل، إنه فضيلة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الذي تمر اليوم 30 نوفمبر الذكرى 34 على رحيله.
في جنوب صعيد مصر، ولد القارئ عبدالباسط محمد عبدالصمد، عام 1927 بقرية المراعزة التابعة لمدينة ومركز أرمنت بمحافظة قنا، حيث نشأ في بيئة تهتم بالقرآن الكريم حفظًا وتجويدًا، فالجد الشيخ عبدالصمد كان من الحفظة المشهود لهم بالتمكن من حفظ القرآن وتجويده بالأحكام، والوالد هو الشيخ محمد عبدالصمد كان أحد المجودين المجيدين للقرآن حفظًا وتجويدًا.
التحق الطفل الموهوب عبدالباسط بكتاب الشيخ الأمير بأرمنت، فاستقبله شيخه أحسن استقبال؛ لأنه توسم فيه كل المؤهلات القرآنية التي أصقلت من خلال سماعه القرآن يُتلَى بالبيت ليل نهار بكرةً وأصيلًا، ومع نهاية عام 1951 طلب الشيخ الضباع من الشيخ عبدالباسط أن يتقدم إلى الإذاعة كقارئ بها ولكن الشيخ عبدالباسط، أراد أن يؤجل هذا الموضوع نظرًا لارتباطه بمسقط رأسه وأهله ولأن الإذاعة تحتاج إلى ترتيب خاص.
ولكنه تقدم بالنهاية. وكان الشيخ الضباع، حصل على تسجيل لتلاوة الشيخ عبدالباسط بالمولد الزينبي، وقدم هذا التسجيل للجنة الإذاعة فانبهر الجميع بالأداء القوي العالي الرفيع المحكم المتمكن، وتم اعتماد الشيخ عبدالباسط بالإذاعة عام 1951 ليكون أحد قرائها، وبعد الشهرة التي حققها الشيخ عبدالباسط في بضعة أشهر كان لابد من إقامة دائمة في القاهرة مع أسرته التي نقلها معه إلى حي السيدة زينب.
وبسبب التحاقه بالإذاعة، زاد الإقبال على شراء أجهزة الراديو وتضاعف إنتاجها وانتشرت بمعظم البيوت للاستماع إلى صوت الشيخ عبدالباسط، وكان الذي يمتلك "راديو" في منطقة أو قرية من القرى كان يقوم برفع صوت الراديو لأعلى درجة حتى يتمكن الجيران من سماع الشيخ عبدالباسط وهم بمنازلهم، خاصة كل يوم سبت على موجات البرنامج العام من الثامنة وحتى الثامنة والنصف مساءً.
وفي شهر رمضان كان الشيخ عبدالباسط، يحيي لياليه في دواوين القرية ولا يرد أحدًا يطلب منه أن يقرأ له بضع آيات من القرآن، ثم بدأ بعدها في التنقل بين المحافظات، وفي إحدى المرات قرأ في مجلس المقرئين بمسجد الحسين بالقاهرة، وعندما جاء دوره في القراءة كان من نصيبه ربع من سورة النحل، وأعجب به الناس حتى إن المشايخ كانوا يُلوحون بعمائمهم وكان يستوقفه المستمعون من حين لآخر ليعيد لهم ما قرأه من شدة الإعجاب، ثم تهافت الناس على طلبه حتى طلبته سوريا ليحيي فيها شهر رمضان فرفض إلا بعد أن يأذن له شيخه.
يعتبر الشيخ عبدالباسط القارئ الوحيد الذي نال من التكريم حظًا لم يحصل عليه أحد بهذا القدر من الشهرة والمنزلة، التي تربع بها على عرش تلاوة القرآن الكريم لما يقرب من نصف قرن من الزمان نال خلالها قدر من الحب الذي جعل منه أسطورة لن تتأثر بمرور السنين، بل كلما مر عليها الزمان زادت قيمتها وارتفع قدرها كالجواهر النفيسة ولم ينس حيًا ولا ميتًا.
فكان تكريمه حيًا عام 1956 عندما كرمته سوريا بمنحه وسام الاستحقاق ووسام الأرز من لبنان والوسام الذهبي من ماليزيا ووسام من السنغال وآخر من المغرب وآخر الأوسمة التي حصل عليها كان قبل رحيله من الرئيس محمد حسني مبارك في الاحتفال بليلة القدر عام 1987.
توفي الأربعاء 30 نوفمبر 1988، بعد تمكن مرض السكر منه وكان يحاول مقاومته بالحرص الشديد والالتزام في تناول الطعام والمشروبات ولكن تزامن الكسل الكبدي مع السكر فلم يستطع أن يقاوم هذين المرضين الخطيرين، فأصيب بالتهاب كبدي قبل رحيله بأقل من شهر فدخل المستشفى إلا أن صحته تدهورت، ما دفع أبناءه والأطباء إلى نصحه بالسفر إلى الخارج ليعالج بلندن، حيث مكث بها أسبوع وكان بصحبته ابنه طارق، فطلب منه أن يعود به إلى مصر.
وكانت جنازة «سفير القرآن» وطنية ورسمية على المستويين المحلي والعالمي، فحضر تشييع الجنازة كثير من سفراء دول العالم نيابة عن شعوبهم وملوك ورؤساء دولهم تقديرًا لدوره.