حكايات النزوح والهجرة.. ما فعله تغير المناخ في البشر؟
داخل قاعة مُخصصة لاجتماعات المنظمات الدولية بمؤتمر المناخ (COP 27) المنعقد بمدينة شرم الشيخ في مصر؛ جلس «أسعد» السوداني بصحبة سيدة من النيجر؛ وشابة من اليمن؛ ورجل من بنجلاديش؛ ورجل آخر من النيجر.
وانضم إليهم عبر الإنترنت ناشط من أوغندا، تلبية لدعوة من الهيئة العليا للصليب الأحمر والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين للحديث عن تجاربهم الأليمة المتعلقة بالتغير المناخي بهدف توعية الحضور بمخاطر الاحتباس الحراري.
وكان الطفل أسعد، ذو الثلاثة عشر ربيعًا، محظوظًا حين لم يكن من بين العشرات الذين فقدوا حياتهم جراء الفيضانات والسيول التي ضربت السودان الصيف الماضي بين شهري مايو وسبتمبر، فألحقت الضرر بنحو 300 ألف شخص وأكثر من 45 ألف منزل في 15 من أصل 18 ولاية سودانية، فضلًا عن تدمير أكثر من 17 ألفًا و600 منزل.
كما ساهمت في تدهور مستويات الأمن الغذائي بعد أن أثرت على أكثر من 5 آلاف هكتار من الأراضي الزراعية لتترك خُمس السودانيين في مواجهة واحدة من أسوأ أزمات انعدام الأمن الغذائي في تاريخهم.
ويحكي أسعد كيف كان يلهو مع ابن خالته في فناء منزلهم المبني من الطين في ريف السودان، وفجأة «أظلمت الدنيا، ولم أعد أرى شيئًا»، على حد تعبيره، حين انهمرت المياه من كل حدب وصوب؛ لتهدم الجدران الهشة وتُسقط الدعامات الخشبية مُحولة المأوى الوحيد، الذي تملكه عائلة أسعد، إلى أطلال.
سقطت الجدران وأُصيب ابن الخالة إصابة بليغة في قدميه؛ فيما أصيب أسعد بخدوش في ذراعيه.
هجرة مناخية
ترك أسعد السودان إلى مصر؛ واستقر بها بعد رحلة يُطلق عليها الخبراء اسم «الهجرة المناخية»، لكن آلاف غيره من الأطفال يعتبرون أن هذا الطفل «أسعد حظًا»، فهم ينتظرون في طوابير طويلة لإتمام إجراءات الهجرة؛ أو يُسلمون أنفسهم -كما يقول أسعد- للمهربين ليعبروا بهم الحدود بطريقة غير شرعية. ويقول أسعد، بينما تملأ الدموع عينيه إنه تمكن من النجاة.. «لكن ماذا عن الرفاق؟».
يبحث أسعد عن الرفاق، ويقول إن الحياة في مصر أكثر أمنًا لكن عقله يفكر بالسودان وقلبه مُعلق بأقرانه من الأطفال؛ وبصوت مبحوح يملأه التأثر يقول الطفل: «أوقفوا التغير المناخي وساعدوا في الحد من آثاره من أجلنا نحن.. من أجل مستقبل أطفال اليوم».
تعيد أزمة المناخ تشكيل العالم، عبر تغيرات في درجات الحرارة؛ وأنماط هطول الأمطار؛ وتواتر وشدة بعض الظواهر الجوية.
تتكالب تلك الظواهر على الفقراء في الأماكن الأكثر ضعفًا؛ لترسم صورة قاتمة عنوانها فقدان سبل العيش وضعف الحكومات وفي بعض الحالات عدم الاستقرار السياسي والصراع.
المفوضية السامية لشؤون اللاجئين قدرت أن نحو 21.5 مليون شخص نزحوا قسرًا كل سنة بسبب المخاطر المفاجئة المتعلقة بالطقس بين عامي 2008 و2016، بخلاف آلاف آخرين هاجروا بسبب المخاطر البطيئة الظهور المرتبطة بتأثيرات تغير المناخ.
جحيم الجفاف
بجلباب ملون مبهج لا يعكس حجم المأساة؛ تقف فاموتا، التي تعيش في النيجر لتحكي عن أهوال واجهتها بسبب الجفاف.
تعيش تلك السيدة الأربعينية في منطقة «ديفا» التي تكالب عليها الجفاف لسنوات متتالية.
تقول فاموتا إن الحقول «تحولت لصحراء»؛ وأن الحيوانات «نفقت وكأنها لم تكن حية على الإطلاق في تلك المنطقة».
نزحت وتركت كل ما تملك، وتقول: «لم يجد الجفاف ما يأكله سوى ممتلكاتنا».
لجأت فاموتا إلى منطقة متاخمة على حدود نيجيريا لتعيش في ظروف هشة وصعبة، فتقول: «أطفالي لا يذهبون للمدارس، ولا يمكننا الوصول إلى مياه الشرب والغذاء».
رغم الدعم الذي قدمته المؤسسات الدولية للنيجر؛ إلا أنه «يبقى لا شيء أمام حجم الكوارث المتعاقبة»، بحسب فاموتا، التي تؤكد أن أبناء جلدتها يحتاجون «دعمًا دوليًا أكبر بكثير» ففي النيجر «الدخول شحيحة والإمكانيات محدودة والكوارث مُروعة».
نزوح أكثر أمنًا
يتحدث ماني تاهيرو، وهو متضرر ونازح داخلي من النيجر أيضًا عن جغرافية دولته التي تجعلها ضعيفة في مواجهة التغير المناخي، فيقول: النيجر في منطقة الساحل ومتاخمة للصحراء و50٪ من مساحتها صحراء ويعتمد سكان وسطها وجنوبها على الزراعة وتربية الحيوانات.. هذا العام ضرب الجفاف المنطقة وتسبب في قلة الإنتاج.
في الجنوب؛ نزح السكان ولم يتبق أيّ شخص إلا قطاع الطرق، يقول تاهيرو إن الشباب لم يجدوا ما يفعلونه سوى السرقة، وانضم جزء منهم للجماعات الإرهابية وعمل بعضهم في اختطاف الفتيات، الأمر الذي أصبح مهنة في النيجر.
لكن تاهيرو فضل عدم الاستسلام، وأنشأ مبادرة «نزوح أكثر أمنًا» لتوعية المواطنين في مجال التغير المناخي؛ والنزوح والهجرة؛ والصحة.
ويقول تاهيرو إنه ورفاقه وفروا للسكان تحليلًا متعمقًا للقوانين والاستراتيجيات ذات الصلة بالنزوح، كما أطلقوا أيضًا حملات توعية لتعريف الناس بالقواعد الخاصة والمميزات التي يوفرها القانون للنازحين.
غير أنه يقول إن كل الجهود «نقطة في بحر جفت مياه بسبب الجفاف».
وتؤكد التقارير الأممية أن تغير المناخ يُفاقم الصراعات؛ رغم أنه ليس بحد ذاته سببًا مباشرًا للصراع، فتأثيرات التغير المناخي تؤثر على الأنشطة المتصلة بالاقتصاد وتضغط على سبل العيش وتزيد من الصراع على الموارد، وهو ما يؤدي لمشاكل أمنية خاصة في المناطق الأكثر هشاشة والحساسة للنزاعات.
شح الموارد
أما الأوغندي إبيرا بوسكو فبقي في منزله رغم تعاقب الفيضانات والجفاف، وبات يعمل في مجال الإغاثة؛ إذ ينشط مع عدة مؤسسات تنتمي للمجتمع المدني وتهدف لعمل تدخلات تتعلق بزيادة قدرة السكان على الصمود ومقاومة آثار التغير المناخي «إلا أن الأمر في غاية الصعوبة بسبب عدم توافر الأموال».
في أوغندا؛ تعاني بعض المناطق من الجفاف وبعضها الآخر من الفيضان. ويقول بوسكو إن بعض الناس «يجدون الأمان في النزوح» إلا أن الأفضل من وجهة نظره «اتخاذ خطوات إيجابية للحد من أثر التغير المناخي ومحاولة التعافي من الكوارث».
في كثير من الأحيان؛ يعني النزوح انقطاع الأطفال عن المدارس وانعدام الطرق أمام كسب لقمة العيش. لذا؛ يعتقد بوسكو أن إنهاء ظاهرة النزوح «أفضل في بعض الأحيان» لكن تحت شروط معينة، إذ يتطلب إنهاء هذه الظاهرة نظم إسكان قوية تصمد أمام التغير المناخي ووجود أموال للمساعدة في التخفيف عن الناس.
ويوضح بوسكو: لدينا محدودية في توفير أساليب التخفيف، هناك نقص شديد في الموارد حتى أن السكان الذين فضلوا البقاء لا يستطيعون شراء حبوب لزراعتها.
يختبئ الحل داخل الدول الكبرى، بحسب بوسكو، الذي يرى أن الوفاء بالالتزامات التي قطعتها على نفسها بدفع 100 مليار دولار للتخفيف أمرًا ضروريًا.
حل مبتكر
مثل بوسكو، فضلت اليمنية إيمان أن تُغير واقعها وتحافظ على البيئة في الآن ذاته.
تعيش إيمان بمحافظة حجة في اليمن، وتسبب تعاقب موجات الجفاف والفيضانات على تلك المنطقة في إتلاف المزروعات.
وجاءت الصراعات الداخلية والنزاعات السياسية لتطلق رصاصة أخيرة على محاولات التكيف مع آثار التغير المناخي.
رحل من رحل؛ وبقي من بقى؛ وكانت إيمان وعشرة نساء من ضمن الباقين. وبعزيمة وإصرار، قررت حل مشكلة عويصة.
في معظم أرجاء تلك المحافظة؛ لا توجد كهرباء حكومية وتقول: «يستغل التجار السكان ببشاعة ويبيعون لهم الكيلو واط/ساعة بدولارين أحيانًا».
فكرت إيمان في تخفيف جزء من معاناة السكان عبر تكوين شبكة مصغرة للطاقة المتجددة. وبفريق مكون من 10 سيدات بالإضافة لها؛ استغلت إيمان شمس اليمن الساطعة لتوليد الكهرباء.
حصلت إيمان على تمويل من جمعية أميركية، وأنشأت شبكتها الخاصة التي تضم الآن 43 مشتركًا يدفعون نصف دولار فقط لكل كيلوواط ساعة، وتقول: ربما يبدو هذا الرقم صغيرًا لكن المشروع طموح وسيكبر مع المستقبل.
واجهت إيمان الكثير من العقبات؛ أهمها على الإطلاق نظرة المجتمع اليمني للمرأة العاملة، وتضيف: لم يتصور أحد أنني أستطيع إدارة مثل تلك المنشأة لكننا اصطدنا أكثر من طائر بحجر واحد.
رفعت إيمان وعي المجتمع بضرورة عمل المرأة؛ وقامت بتوليد الكهرباء من مصدر طاقة متجددة نظيف؛ وباعتها بثمن زهيد؛ وحققت مكاسب لها ولأسرتها ولأسر جميع العاملين في المشروع.
تتشبث إيمان بالوطن، وتقول إن النزوح ليس من السهولة بمكان كي تفعله، وتُفضل التمسك بالأرض لكن بالطبع تحتاج تلك المبادرات لتمويل يدفعها للأمام.
بنجلاديش في قلبي
بعكس إيمان يعيش البنجلادشي شهاب في الشتات، فقد هاجر إلى بريطانيا بعد أن دمرت الفيضانات منزل عائلته، ويقول إن الفيضانات التي جاءت بعد رحيله كانت أكثر تدميرًا بكثير.
ورغم الشتات «بقيت بنجلاديش في قلبي»، هذا ما يقوله شهاب الذي يسعى حاليًا لجمع التمويلات من جميع الأوساط -المؤسسية والأكاديمية والبنكية والخيرية- لحشد كل الموارد لمقاومة التغير المناخي في بنجلاديش.
يقول شهاب إن السؤال الذي يراوده دائمًا هو ما الذي يجب أن نفعله بشأن الخسائر؟.
وتأتي الإجابة على لسانه قائلًا: «تأمين الاستثمار والتمويل العالمي طويل الأجل والعمل على الأهداف المناخية هو ما يُمكن أن يفعله العالم لمواجهة البؤس في الدول الأكثر فقرًا واحتياجًا وتضررًا».
ويرى شهاب أن آثار التغير المناخي عالمية -أيّ أنها تؤثر على جميع أنحاء العالم- إلا أن ذلك التأثير غير متناسب إطلاقًا. فالدول الفقيرة والنامية، برأيه، «دفعت وستدفع ثمنًا باهظًا لتقدم وازدهار الدول الغنية.. والآن يجب تسديد الدين ودفع الأموال للخسائر والأضرار التي لحقت بالفقراء والدول النامية جراء التغير الذي تسبب فيه العالم المتقدم».