"حرب محدودة.. ولا سلام".. الفائزون والخاسرون من الحرب الروسية الأوكرانية
لم يؤد قرار موسكو بغزو أوكرانيا إلى حرب واحدة، بل حربين؛ الأولى حرب روسية شنت بشكل أساسي ضد مدن أوكرانيا، والثانية حرب خاضتها القوات المسلحة الأوكرانية ضد القوات الروسية، فروسيا تفوز بالأولى، وأوكرانيا تفوز بالأخيرة، والتعاون الدولي يخسر المعركتين، وفقًا لمقال تحليلي كتبه ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية الذي شغل سابقًا منصب مدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأمريكية، ومؤلف عدد من الكتب، ونشره موقع "بروجيكت سنديكيت" الأمريكي.
مضى أكثر من ثمانين يومًا منذ اندلعت الحرب في أوروبا الشرقية، وبشكل مثالي، من الممكن أن تؤدي المفاوضات إلى وقف إطلاق النار وتسوية دائمة ولكن من المرجح بنفس القدر إن لم يكن أكثر أن يستمر الصراع لبعض الوقت، خاصة إذا قرر بوتين تبني استراتيجية تقلل من تعرض قواته للقتال ورفض نتيجة تفاوضية بشروط يمكن أن تقبلها حكومة أوكرانيا، وإذا استمرت أمريكا وحلفاؤها في سياسة تكسير العظام ضد الاقتصاد الروسي لإصابته بالشلل كما هو معلن، ويرجح هاس أن تكون النتيجة "حرب محدودة، ولا سلام"، على حد تعبير تروتسكي.
من سيكون الرابح والخاسر في مثل هذا السيناريو؟
يعتقد هاس، أنه من الأسهل الإشارة إلى الخاسر الأكبر: روسيا، ويرى أنه بات من الواضح الآن أن بوتين لن يكون قادرًا على تحقيق الأهداف السياسية التي سعى إليها على الأرجح، أي السير إلى كييف واستبدال حكومة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بحكومة صديقة للكرملين، فلا يبدو أي استسلام قريبًا في الأفق، وربما تكون الحرب قد دمرت الكثير من أوكرانيا ماديًا، لكن العقوبات غير المسبوقة والعزلة الاقتصادية التي أحدثتها الحرب بالفعل توشك على أن تدمر روسيا اقتصاديًا، وفقًا للدعاية الأمريكية.
الناتو أبرز الفائزين
يعتقد هاس، أن الناتو، على الرغم من عدم اختباره عسكريًا، يعتبر فائزًا كبيرًا حتى الآن فالحلف صار أكثر اتحادًا وأقوى نتيجة الحرب، كما أنه يستفيد من الأداء الضعيف للقوات المسلحة الروسية، التي لا تضاهي الحلف الغربي، ومن رئيس أمريكي يؤمن بحلف الناتو، وألمانيا وحكومتها الجديدة ومستشارها فائز آخر، وضمنيًا في رد حكومة المستشار أولاف شولتز على تطورات الأمور، يكمن فهم كبير لإرث سلفه، أنجيلا ميركل، فيما يتعلق بثغرات تهدد أمن القارة الأوروبية، لأن ميركل هي التي سمحت لألمانيا بأن تصبح شديدة الاعتماد على الطاقة الروسية، ويمثل قرار شولتز بإلغاء خط أنابيب الغاز نورد ستريم -2، والالتزام بمضاعفة الإنفاق الدفاعي، والاستعداد لنقل الأسلحة إلى أوكرانيا تغييرات كبيرة ومهمة، ولكن خيبة الأمل الوحيدة هي أن الاقتصاد الألماني سيستغرق سنوات كي ينفطم عن الغاز الروسي، وهو واقع يوفر ثقلًا مهمًا للاقتصاد الروسي.
بايدن رابح آخر
كما حقق الرئيس الأمريكي جو بايدن مكاسب عدة، لقد أدار بمهارة في الغالب سياسة دعم أوكرانيا، ومعاقبة روسيا، ورفض الدعوات لوضع "جنود على الأرض" أو إنشاء منطقة حظر طيران، وقد فعل ذلك دون المخاطرة بالحرب العالمية الثالثة.
كما جمع بايدن أيضًا حلفاء أمريكا صفًا واحدًا معًا، وهو أمر تمس الحاجة إليه بعد أربع سنوات من دونالد ترامب والانسحاب الأمريكي السيئ من أفغانستان، وكانت إحدى زلاته الرئيسية هي محاصرة بوتين أكثر من خلال وصفه بمجرم حرب والتلميح إلى تغيير النظام عندما يجب أن يكون هدف السياسة الأمريكية هو حمل بوتين على وقف الحرب وتجنب أي تصعيد من أي نوع.
الصين
يعتبر هاس الصين ورئيسها، شي جين بينج، في وضع استراتيجي أسوأ مما كانت عليه أوائل العام الجاري، من خلال الارتباط الوثيق مع بوتين، فقد عرّض شي نفسه للنقد بسبب القرارات التي تعتبرها واشنطن معيبة وتضر بسمعة الصين ويزيد من مخاطر استهدافها بعقوبات ثانوية في حين سعت الصين منذ فترة طويلة إلى تقسيم الغرب، فإن انحيازها لروسيا أدى إلى عكس ذلك، مما أدى إلى تنفير أوروبا الغربية، حيث كانت تحقق نجاحات اقتصادية كبيرة.
كما أن الموقف الصيني، وسعي بكين للحصول على النفط الروسي بأسعار مخفضة، وبالتالي كسر ومخالفة العقوبات المفروضة ضد موسكو، سيؤدي إلى سياسة أمريكية أكثر صرامة تجاه الصين، ويسلط الضوء على التكاليف التي يمكن أن تواجهها الصين إذا تحركت عسكريًا ضد تايوان وإلا فإن الخاسرين أكثر بكثير من الفائزين، وهو ما يليق بالحرب.
إخفاق جديد للأمم المتحدة
تبدو الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، عاجزة عن العمل، فالحرب ضارة بالجهود العالمية لإبطاء انتشار الأسلحة النووية، وقد تخلت أوكرانيا عن مخزونها منذ 28 عامًا في مقابل ضمان سلامتها الإقليمية، إلا أنها تعرضت للغزو مرتين منذ عام 2014، كما كانت الأزمة سيئة أيضًا بالنسبة للجهود المبذولة لمكافحة تغير المناخ، والتي يبدو أنها تراجعت مؤقتًا على الأقل بسبب التدابير المصممة من أجل تعزيز أمن الطاقة.
فكرة الاحتلال لم تعد تنتمي إلى الماضي
تشكل هذه الحرب أزمة سيئة بالنسبة لأولئك الذين كانوا يجادلون بأن غزو الأراضي والحروب بين البلدان كانت شيئًا من الماضي، ويتشكك المراقبون والخبراء في مقولة أن "الخطر الأكبر على الأمن الدولي هو تجاوزات الولايات المتحدة".
النظام العالمي
أخيرًا وليس آخرًا، هناك مسألة ماذا سيعني هذا الصراع للنظام العالمي؟، زلزلت الحرب المبدأ الأساسي للاستقرار الموجود في العالم: ألا يتم تغيير الحدود بالتهديد أو باستخدام القوة، وسيتوقف الكثير على نتائج ما يصفها هاس بأنها "المغامرة الروسية" أو ما إذا كان الثمن الذي يجبر على دفعه يفوق أي مكاسب قد يحققها الروس، مما سيحدد الحكم النهائي للتاريخ فيما يتعلق بمكاسب وخسائر الحرب الجارية.
الهند
نقلت صحيفة هندوستان تصريحات رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، في 2 مايو الجاري، بأنه لا يمكن لدولة أن تخرج منتصرة في الصراع الأوكراني، وأن الهند تدعم السلام، ودعا إلى إنهاء الحرب، وهو موقف ينم عن بعد نظر وتقييم سليم للموقف الدولي، على الرغم من أن البعض قد يظن أن الهند حققت أو من الممكن أن تحقق مكاسب نسبية بفضل ثقلها في إنتاج الحبوب والقمح.
حقيقة الموقف لا يمكن أن تنحصر في زاوية القمح واحدة، فقد شكلت الحرب في أوكرانيا تحديًا استراتيجيًا للهند، التي عملت على مدار السنوات الماضية على تأسيس شراكة مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين عبر "تحالف كواد"، قبل أن تغرد منفردة خارج التحالف وتمتنع عن إدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتتجه لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع موسكو.
ووفقًا لشبكة سكاي نيوز، لم يتمكن قادة "تحالف كواد" (أميركا واليابان وأستراليا)، مطلع مارس من إقناع شريكهم الرابع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، بدعم موقفهم في أزمة أوكرانيا، واكتفى التحالف في بيان مشترك بالإشارة إلى أن قادته "تطرقوا إلى النزاع والأزمة الإنسانية في أوكرانيا، وأجروا تقييمًا لتداعياتها الأوسع نطاقًا"، وخلا البيان من أي إدانة لموسكو، كما امتنعت الهند في سلسلة متعاقبة من جلسات تصويت في الأمم المتحدة عن إدانة الغزو الروسي.
ورغم أن روسيا تعد أكبر مصدر للأسلحة إلى الهند منذ الحقبة السوفيتية، فإن نيودلهي تحتاج الآن إلى دعم أكبر من مجموعة "كواد" في مواجهة تنامي النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، فالتوتر مع بكين في أعلى مستوياته منذ المواجهات التي دارت بينهما عام 2020 في المنطقة الحدودية المتنازع عليها في الهيمالايا، التي أوقعت 20 قتيلًا على الأقل في صفوف القوات الهندية، و4 قتلى من القوات الصينية.
دول الخليج المصدرة للنفط
ذكرت شبكة سي إن إن الأمريكية، أن حرب أوكرانيا أحدثت فوضى في الاقتصاد العالمي، لكن تأثيرها في الشرق الأوسط لم يكن قاتمًا على الجميع، ففي وقت تشتكي خلاله مصر ولبنان وتونس من الصعوبات التي تواجه استيراد القمح من أجل الخبز، هناك بعض أكبر منتجي النفط والوقود في العالم، وعلى رأس القائمة دول الخليج التي تجني خزائنها مليارات الدولارات الإضافية بفضل ارتفاع أسعار النفط في أعقاب اندلاع الحرب، ومن المتوقع أن تسجل الإمارات والسعودية، أول فوائض في ميزانيتهم العامة بعد ثماني سنوات من الركود النفطي الذي تفاقم بفعل الركود المرتبط بجائحة كوفيد-19.
وكشف بحث أجرته مجموعة ميتسوبيشي المالية، أن دول مجلس التعاون الخليجي من المرجح أن تشهد ارتفاعًا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.1٪ في عام 2022 على خلفية ارتفاع أسعار النفط، فضلاً عن الفوائض المالية لأول مرة منذ عام 2014.
ويتكون مجلس التعاون الخليجي من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والإمارات العربية المتحدة والكويت وقطر والبحرين، وقالت مجموعة ميتسوبيشي المالية: "سيؤدي ذلك إلى فائض مالي إجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي في عام 2022 بقيمة 27 مليار دولار"، مضيفة أن إجراءات التقشف التي تم تنفيذها مؤخرًا بالإضافة إلى زيادة النفط ستدعم الميزانيات العمومية.
وانهارت أسعار النفط خلال الوباء وسط زيادة العرض وتناقص الطلب في حالة الإغلاق. كان سعر خام برنت القياسي 22 دولارًا للبرميل في مارس 2020، وبحلول أوائل مارس من هذا العام، كان عند أعلى مستوى في 14 عامًا، مرتفعاً فوق 130 دولارًا للبرميل مع تصاعد حدة الحرب الروسية في أوكرانيا.
واعتادت دول الخليج التي تعتمد على النفط والغاز في الجزء الأكبر من دخلها على طفرات النفط وفترات الانهيار، وفي الماضي، ضاعفوا خطابهم عن تنويع مصادر الإيرادات أثناء فترات الركود، لكنهم أخفقوا في كثير من الأحيان في تحقيق تلك الطموحات خلال فترات الازدهار.