الخميس 25 أبريل 2024 الموافق 16 شوال 1445
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

قراءة في رواية "الوهم" بقلم الأردني أيمن دراوشة: قضايا حساسة تهم المواطن العربي المطحون

الرئيس نيوز

أبدع كتاب الغرب في كتابة الرواية البوليسية، بينما لم يهتم الأدباء العرب بكتابة هذا النوع من الروايات. لا شك أنَّ شيوع الرواية البوليسية في الغرب ناتج من بنية المدينة الغربية التي تضج بالحياة، وكان لانتشار الجريمة والعنف أنْ مهَّد لهذه الروايات. وعلى الرغم من أننا نملك مادة زاخرة تنفع للكتابة، إذ أغلبية الدول العربية ترزح تحت حكم أنظمة بوليسية، إلا أنَّ الكتَّاب العرب تجاهلوا الكتابة، قد يكون السبب انشغالهم بالقضايا العربية الشائكة والمعقدة كالاحتلال الإسرائيلي والأمريكي لكل من فلسطين والعراق، إذ يبدو أن الهموم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أنهكت الكاتب العربي ولم يعد يملك رفاهية الكتابة البوليسية.
 فالرواية البوليسية من أصعب أنواع الكتابة لأنها تتصف بعمق درامي، وتتطلب خيال خصب ومجنح.
تجذب رواية "الوهم" القارئ نظرًا لبراعة الكاتب في نسج حبكته، وقامت الرواية على جرم جنائي، أخذ ينمو ويكبر، وتتعقد الأحداث حتى الوصول إلى حل للعقدة الرئيسة. عناصر الرواية البوليسية تتشابه فهناك الجريمة الواقعة، والمجرم الذي يكون غالبًا عدوًّا لدودًا للبطل، والضحية، ورجال الشرطة، والدافع الذي يقف خلف ارتكاب المجرم لجريمته، وهناك الشخصيات الثانوية التي تساعد البطل في حل لغز الجريمة.
أولًا: براعة الحبكة 
اشتغل الروائي على الحبكة الدرامية التي هي لب العمل البوليسي فخرجت متقنة، ومرسومة بحرفية، واستعان بمجموعة من الشخصيات المركزية إذ يمكن الحديث عن أكثر من بطل في الرواية.
تحكي الرواية حكاية نهلة الأيوبي المتهمة بقتل طفلها بالسم، والمحامي علي الأباصيري زميل دراستها السابق، والذي يكن لها الإعجاب، غير إن الرواية حملت من الأحداث الكثير، واستطاع الروائي نسج أكثر من قصة في الرواية، فتشابكت الأحداث، وأظهرت ما يعانيه الوطن من ويلات ومصائب بسبب الفاسدين الذين يعملون على هدم كل شيء جميل في الوطن.
إنَّ نهلة الفتاة التي تزوجت من شخص لا يعادلها في المستوى الفكري والاجتماعي كي تخلص من جحيم معاملة والدها، والتي تكشف الأحداث أنه زوج أمها، بل هو من قام بقتل والدها للاستيلاء على شركته وزوجته وكان له ما أراد.
أمَّا نهلة التي تقع فريسة لزوجها الذي يعاملها بقسوة، والذي يتصف بالجشع والانتهازية وقلة الأخلاق تبدو إنها تمثل مصر بما يحيط بها من مشاكل ومؤامرات من أجل تحطيمها وإضعافها.
تمتلئ الرواية بالمؤامرات المحبكة للشخصية "الشريرة" عامر بيه الذي يظهر في البداية كشخصية وادعه تحاول إنقاذ نهلة من مصيبتها قبل أن تكشف الأحداث عن جشعه وإجرامه فهو شخصية قذرة لا تتوانى عن ارتكاب الجرائم فقتل وسرق ونهب وهو يتغطى بوجه مبتسم أثناء تقديمه المساعدات لمرضى السرطان!
نجح الروائي في حلِّ العقد والوصول إلى النهاية بطريقة سلسة ومرنة.
ومن عوامل نجاح الرواية البراعة في الاستهلال، وهو عنصر لا غنى عنه في البناء الفني للرواية، وتُعد عتبة الاستهلال عتبة مهمة من عتبات الكتابة لدورها في حسم توجّه القصة وتشكيل رؤيتها وبيان نموذجها". (دراسة في بلاغة التشكيل والتدليل. دمشق: منشورات دار تموز للطباعة والنشر والتوزيع. ط1. 2012م. ص 57)
 فهذه العتبة التي تأتي بعد عتبة العنوان "الوهم" تشكل أول دخول حقيقي إلى ساحة النص. وفي النقد القديم ناقش النقاد مهارة الكاتب في استهلاله للعمل الأدبي، فقالوا عن أهميته: "إنّ حسن الافتتاح داعية الانشراح ومطيّة النجاح، وتزداد براعة المطلع حسنًا إذا دلّت على المقصود بإشارة لطيفة".  (أحمد الهاشمي. جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع. بيروت: منشورات المكتبة العصرية. ط1. 1999م. ص 419)
يشد العنوان القارئ، والاستهلال يجعل المتلقي يقبل بشغف على قراءة القصة أو تركها لشعورة بالملل منذ الصفحة الأولى.
يبدأ الروائي مدحت شنن روايته بهذا المشهد المثير"ليلة ممطرة، السماء تمطر وتحتضن الأرض أمطارها ببرك من رمال، تسري على الأرض وكأنها نهر صغير..  فنجان قهوة وصحيفة جلست أقلب صفحاتها في ملل...، تسمرت مقلتاي وتشنجت أطرافي أمام خبر مذهل ....
 (القبض على نهلة الأيوبي قاتلة طفلها)". 
ويستمر باستهلاله مُحدثًا الإثارة المطلوبة، يقول: "نهلة الأيوبي كريمة رجل الأعمال عامر الأيوبي، زميلة الدراسة بكلية الحقوق جامعة القاهرة، متهمة بقتل رضيعها أمجد ذي ستة الأشهر، أثناء إرضاعه بمستشفى الأطفال التخصصي بالقاهرة، حين كان مودعًا بقسم العناية المركزة".
إنَّ هذه الفتاة ولا ريب أثارت بفعلتها القارئ، وأثارت فضوله ليعرف السبب الذي يجعل من أم تقتل رضيعها.
تناولت الرواية موضوعات فرعية شتى، فتطرق الروائي إلى حالة الفساد المستشري في البلد الذي وصل حتى المحاكم، وكذلك حال المبدعين الذين تجرفهم الحياة وروتينها بسبب البطالة، أو العمل بمهنة لا تتناسب مع التحصيل العلمي...
كما نجح الروائي في البداية والنهاية مما منح الرواية التماسك والحياة، فالخاتمة كما الاستهلال تؤثر في القارئ، فالبناء الروائي كبناء بناية يصنع حجر حجر. تحتوي الرواية على بعد جمالي نتج من تشكيل اللغة، فالروائي مزج بين اللغة الفصحى الجزلة، واللغة العامية في الحوار، كي تناسب اللغة الشخصية. واستفاد من شعرية اللغة وانسيابها، إنَّ حيوية السرد ولا شك تمنح الرواية "سرعة الأداء اللغوي، إذ يمكن لتركيب الجمل التي تعتمد على التجاوز غير المألوف للمفردات أن تخلص النص من التعثر". (يوسف حطيني. مكونات السرد في الرواية الفلسطينية، دمشق: منشورات اتحاد الكتب العرب، ط1، 1999م، ص 200)
  ومن أمثلة ذلك قول المحامي علي:
أقبل الليل ...أتأمل الشفق الأحمر وهو يحتضن الأبراج الشاهقة وداعًا، والشمس تودع النيل بشعاع هزيل، وتنغمس في حمرة الشفق المعتمة، والليل يرخي سدوله السوداء، وأنا جالس في مكاني ألفظ أنفاسي ببطن مشدودة على خواء تمزقها أنياب الجوع".
ومن الأمثلة على اللغة العامية الحوار الذي دار بين علي والريس مطاوع صاحب العشة لتي يهرب إليها علي من هموم الدنيا.
"- مالك يا أستاذ.. شايل طاجن ستك؟
رددت هاربًا من عينيه التي تتفحصني 
تميزت اللغة السردية في الرواية بقدرتها على تشخيص الواقع المعاش، والدخول إلى قلب الشخصية، وإظهار، وجهها النفسي، والفكري.


ثانيًا: الشخصيات المركزية
ميز النقاد بين الشخصيات، وحاولوا البحث عن فروق بينها، وتناولوا دورها وعلاقاتها الشائكة، وأهم الاختلافات بين الشخصيات يكون في الدور التي تقوم فيه بالرواية، وهل هي شخصيات نامية أم نمطية ثابتة. فالحبكة الروائية لا تقوم إلا على شخصيات متناقضة وهناك الشخصية الرئيسة في العمل والشخصيات الثانوية، الشخصيات التي تتسم بالقوة والشخصيات الواهنة، وعدَّ سعيد يقطين الشخصيات
"أهم مكونات العمل الحكائي، لأنها تمثل العنصر الحيوي الذي يضطلع بمختلف الأفعال لتي تترابط وتتكامل في مجرى الحكي". (سعيد يقطين. قال الراوي، الدار البيضاء: منشورات المركز الثقافي العربي، ط1، 1997م، ص 87) ويبدع الروائي شخصياته من خياله لغايات حكائية، وتعمل على تأثيث العالم الحكائي "وملء العديد من الفجوات والثغرات التي يمكن أن تنشأ عن عدم توظيفها في مجرى الحكي. إنَّ عملية التأثيث هاته تستدعي خلق العديد من الشخصيات المتميزة الصفات والملامح، وذلك لتتلاءم مع الأدوار المنوطة بها في صنع الأحداث وتطورها. لذلك نجد عالم الشخصيات يمتد من الشخصيات الرئيسة التي تضطلع بأدوار مركزية، إلى الشخصيات العادية التي تقوم بأدوار بسيطة". (المرجع السابق. ص 97)
إنَّ الشخصية هي عمود العمل الروائي، فهي التي تقوم بالفعل، وتقود الأحداث، ويصنع الروائي في الغالب شخصياته من الواقع، حيث يعمل على تحليل دواخلها وطبيعتها النفسية.
اتصفت نهلة بالجمال والحسن فهي ذات "قوام ممشوق عرفت كيف تعتني به وتتعهده، فصار كالغصن المياد الذي يتهادى مع النسيم، مكسو بحلية منمقة باهظة الثمن، وشعر أسود مسدول على كتفيها فى طاعة عمياء، يزين رأسًا منحوتة التفاصيل كأميرة إغريقية، بعينين واسعتين تشعان وميضا براقا، وشفاه رقيقة رسمت بحرفية تسيل منها لذة وعذوبة".
وتنحدر من أسرة فاحشة الثراء، أما المحامي علي الأباصري فهو ابن فلاح، ولد وعاش بإحدى قرى البحيرية النائية، قبل أن ينتقل للقاهرة من أجل دراسة القانون ويبدع فيه.
تعاني نهلة من ضغوطات الحياة "فعامر بيه" والدها المزيف اتهمها بالتسبب بقتل أخيها الصغير الذي مات بحادث سير. تصاب بمرض نادر (توهم كابجراس) والمريض المصاب يتوهم أنَّ شخصًا تبدل بهيئة شخص آخر، فكانت ترى إنَّ عامر بيه ليس والدها وإنه شخصية شريرة كون شخص آخر أخذ شكله وهيئته.
لا شك أنَّ الشخصية الروائية تستقي أفكارها وصفاتها الجسدية وعاداتها وتقاليدها من البيئة التي تعيش فيها، وإن كانت مميزة عن الأنماط البشرية التي نراها في حياتنا إلا أنها أقرب إلى الواقع، وتبهرنا بصفاتها غير المألوفة فهي تملك ثراء دلالي، وتمتاز بالحيوية والحركة والفعل الإيجابي.
وتبدو شخصية المحامي الأباصيري متزنة، وتعمل بجد واجتهاد، وهي شخصية فاعلة وناقدة للواقع المعاش.
 ومن المواضيع التي تم نقدها حالة المستشفى الذي تقبع به نهلة، فالموظفون والممرضات كانوا يهملون المرضى، ويتكاسلون في القيام بواجبهم، وعندما رافق الأباصيري الطبيب إلى غرفة نهلة، تحول الموظفون من حالة اللامبالاة إلى حالة النشاط المصطنع الزائف اعتقادًا منهم أنه أحد مفتشي وزارة الصحة الذين يحضرون من وقت لآخر لمراقبة حسن سير العمل؛ لذلك تظاهروا بالانخراط في العمل خشية الجزاء، ونسوا أنه لا فضيلة لمن يطيع القانون خوفًا.
"هذه مأساتنا التي نعاصرها، كثير منا لا يعمل إلا كرهًا أو خوفًا من مخالفة القانون وتطبيق الجزاء".
ووجه الروائي على لسان شخصيته نقد لاذع للثورة المصرية، يقول:
"بعد الثورة المواطن الغلبان كان بيحلم إن ظروفه تتحسن يعني الأسعار تقل .. العاطلين يشتغلوا.. الفساد ينتهي.. لكن مع الوقت خاب أمله واكتشف العكس وصحا على واقع أصعب من الأول فأصيب بالإحباط ...
وتناول المؤلف التغيرات السلبية التي طرأت على الريف المصري، فبعد أن عزله عمر بيه عن قضية نهلة، شعر بالإحباط وقرر الذهاب إلى قريته، يقول: "اشتقت إلى الجلوس وسط الحقول الخضراء المنبسطة، حيث العشة المجدول جدرانها بأعواد الحطب والبوص وعيدان الذرة، وتحوطها أوراق اللبلاب والخروع وست الحسن، وتتفتح حولها أزهار ملونة تثير روائح زكية وتبعث في النفس السكينة والسرور، 
وكذلك تناول تحطيم أحلام الشباب فها هو سالم الصواف يموت غرقًا وهو يحاول الهجرة من الوطن القاس، سالم الصواف "ابن البوسطجي عطية الصواف، أول دفعته في كلية الحقوق، تقدم لشغل وظيفة وكيل نيابة حلم حياته الذي اجتهد من أجله، فكانت النهاية الطبيعية لهذا الحلم المستحيل.. الرفض.. لأنه ابن البوسطجي البسيط، وأولى بهذا الكرسي أبناء الكبار".
تخلى عن حلمه وعمل نقاشًا، يكتسب النزر اليسير من هذا العمل، ليجد الخبز الذي يملأ به بطونًا خاوية طاوية افترسها الجوع، وسحقتها الحاجة، فكان يكد طوال اليوم، ليصيب ما يقيه هو وأسرته غائلة الجوع. وعندما حاول الهجرة وقع بين براثن سماسرة الموت.
تنتهي الرواية بنجاح الأباصيري بجلب البراءة لنهلة بعد أن كشف أنَّ الطفل مات بمرض نادر (اضطراب احمضاض الدم) ويصيب الأطفال حديثي الولادة "نتيجة خلل في عملية الأيض الخاصة بالبروتينات، والخلل دا بيسبب تراكم مادة كيميائية سامة في الدم، وبسبب الخلل دا بتظهر أعراض على الطفل المريض متطابقة تقريبًا مع الأعراض اللي بيسببها التسمم بمادة الجلايكول إيثلين".
وجرائم عامر بيه الذي قتل طبيب نهلة النفسي نديم عزت وزوجها وجيه حتى لا يكشفوا براءة نهلة، حتى إنه حاول قتل زوجته مدام رجاء وأم نهلة بعد أن كشفت حقيقته.
تنتهي بعودة الأمل، يلتقي الأباصيري بمحبوبته نهلة (مصر) بعد تعافيها واسترداد حريتها وحلمها.
 وحفلت الرواية بطرق الوصف، فهناك الوصف الواقعي، الذي يؤطر المكان، أو يعمل على التعريف بالشخصيات والأشياء، وهناك الوصف الشعري، الذي يركز على شعرية اللغة الواصفة.
الرواية جميلة ومشوقة، وتحويلها إلى فلم سينمائي سيزيدها جمالا ومتعة، وهي بالفعل عبارة عن مشاهد سينمائية تم التقاطها بكاميرا حاذقة.