مدحت شنن يكتب: ثالوث الحل
مما لاشك فيه أن تطور البشرية، والمشاركة الفاعلة في الحضارة الإنسانية رهن تجارب ناجحة، وأطروحات تتضمن رؤي موضوعية، تقود إلى مستقبل أفضل.
هذه التجارب والأطروحات هي المكون الرئيسي لأي مشروع أو مؤسسة، سواء كانت
خاصة أو عامة، لذا فتقدم المجتمعات يولد من رحم هذه المؤسسات، التي وجدت لنفسها -
في عالم الإنجاز والنجاح - أكرم ركن.
فلا تُبنى المجتمعات، ولا تقوم الأوطان على مؤسسات فاشلة، لكنها في حاجة
مستمرة لعمل متناغم، تفيض ألحانه عذوبة من
ثنايا تجارب ناجحة، ومن هنا كانت الحاجة مُلحة، وجوهرية للوصول إلى الأساسيات التي
يقوم عليها الطرح الناجح، وهي ثالوث الكوادر والنظام والرقابة.
ومن ثم فنجاح المؤسسة يقتضي كوادر واعية، ونظامًا موضوعيًّا، ورقابة فاعلة.
فأما الكوادر فلابد من اختيارها من بين أهل الكفاءة وليس أهل الثقة، اختياراًمجرداً، لا فضل فيه إلا للكفاءة، ووفرة الإمكانيات، اختيارًا مُنزهاً عن
المجاملة والمحسوبية، بعيداً عن "فلان بك" و"علان باشا"، حينها سيملأ أركان المؤسسة قيادات قادرة على تطبيق النظام وتحقيق أهدافه، بعد أن تُعطي
كل ذي حق حقه دون ظلم أو محاباة، ذلك لأن آفة المؤسسات اختيار قياداتها من بين
أهل الثقة وذوي القرابة بأهل السلطة والمال، هذا الاختيار ذو خطر مزدوج، فمن ناحية
يؤدي إلى فشلها نتيجة عدم دراية القائم عليها، وضحالة إمكانياته وفقر موهبته في
القيادة، ومن ناحية أخرى فإنه يقضي على ذوي الكفاءة من الكوادر التي تملكها
الإحباط وأنهكها السخط، فتجمدت وتجلط فكرها بسبب
قلة حيلتها، وبُعدها عن ذوي النفوذ، وهذا طبيعي حين يرى القيادة سُلمت لمن
هم أقل منه كفاءة ودراية، بينما هو قابع في مكانه، لا يكترث به أحد، ولا يشغل بال
رؤسائه، تُغتصب كفاءته ليل نهار بفعل فاحش طرفاه قيادة مهلهلة، ونفوذ فج مكَّن
مَنْ لا يستحق من مكانة يستحقها غيرُه.
غير أن الكوادر الواعية لا تكفي بمفردها لنجاح المؤسسة، بغير نظام مُحكم
مدروس، يقوم على رؤية موضوعية وقوانين منضبطة صريحة، لا غشَّ فيها ولا خداع ولا
تفضيل، نظامٍ يتضمن طرحًا واضحًا قابلاً للمراجعة والنقد والإنماء والتغيير، تتصرف
القيادة وتُدير المؤسسة على ضوئه، وفي إطار أحكامه ونواهيه، فيكمن في العقول
كدستور حياة وأسلوب عمل.
إن القيادة الواعية تعمل من خلال نظام علمي، يقضي على الفوضى التي تولد
الارتباك في العقول وفي الخُطى، ذلك لأن قصوره قادر على هزيمة المؤسسة دون حرب، ويحللها
دون أن تموت، وواقعنا شاهد على أن تجاربنا في حاجة لنظام وضبط، وعلاج فاعل وناجز
من طاعون التأجيل، وفيروس التسويف ووباء ازدراء الوقت وعدم احترام المواعيد، ومع
ذلك فالنظام بمفرده هو الآخر لا يُقيم مؤسسة ناجحة، بغير رقابة عمياء لا ترى إلا
الحق، تدفع إلى تنفيذه بصورة جيدة، وتحقق أهدافه على أكمل وجه، وتتأكد من التزام
المخاطبين بأحكامه وحدوده بصورة مجردة، حينها سيلتزم الجميع، قيادة واعية تنفذ
نظامًا محكمًا، ومرؤوسًا يُقدر مسئولياته ويسعى لإنجازها، في إطار عام يفيض عدلاً، فيُثاب
فيه المُحسن ويُعاقب فيه المُسيء.
إن تطبيق النظام بصورة مجردة أمر لازم ووجودي، بدونه يلوح الفساد فيعبث
بالتجربة، ويفترسها حتى الزوال، ومن ثم فهذا الثالوث حتمي التطبيق بصورة متوازنة لا تفضيل لواحد على الآخر، ذلك لأن
العلاقة فيما بينها علاقة وجود وتكامل، فهي ثلاثية حتمية تقتضي عناية مستمرة لا تباطؤ فيها، وبدونها فإن
مصير المؤسسة فشل حتمي، وحينها سيكون قائدها كجرذ يخطب عن النظافة، ويُنذر القذرين
بالعقاب ومِن حوله يُصفِّق الذباب.