الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس التحرير
شيماء جلال
عاجل
تقارير

"نحن ثرنا فحياة أو ممات".. قصة نشيد ألهم الجزائريين ملحمة التحرير

ثورة التحرير الجزائرية
ثورة التحرير الجزائرية

تمر اليوم الذكرى التاسعة والخمسون على تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي، في 5 يوليه من العام 1962، في نفس يوم الاحتلال الذي تم في العام 1830، وجاء الاستقلال عقب ملحمة عظيمة، سطرها أبناء الجزائر بدمائهم وقلوبهم عبر إطلاق أول رصاصة من فوهة بندقية حرب الاستقلال والتحرير يوم 1 نوفمبر من العام 1954.


(الموسيقار الجزائري محمد التوري)

مما لا شك فيه أن هوية الأمم تعرف عبر العَلَم، والنشيد الوطني كبطاقة تعارف بالبلاد والعباد من خلال القوة الناعمة ما بين الفن التشكيلي والموسيقي المتلاحمة مع الشعوب المختلفة بلغة الوجدان.


(الموسيقار التونسي محمد التريكي)

إذا نظرنا إلى السلام الوطني، فهو بمثابة بطاقة وصف للأمم عبر كلمات مرسومة بعقود نفيسة من الحروف الوجدانية الصادقة النابعة من راسميها في أوقات المحن والنصر.


(شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا)

هذا ما وَضَحَ تلقائيًا في السلام الوطني الجزائري، الذي خرج من رحم المعاناة في ملاحم كفاحية طوال مائة واثنين وثلاثين عامًا من الدماء والشهداء وصفحات الفخار التي رُسمت بأنامل أبطالها على العلم الجزائري، والنشيد الوطني.


(المقاومة الجزائرية)

بدأت حرب الاستقلال الجزائرية في الأول من نوفمبر من العام 1954، في خضم الزحف الاستقلالي لدول العالم الثالث من براثن الاستعمار بمختلف ألوانه وألسنته تزامنًا مع صعود مصر الناصرية وقت توقيع اتفاقية الجلاء في نفس العام كجرس إنذار حتمي للاستعمار على أن الروح الوطنية خفاقةً بعزم وإصرار رغم براثن المعتدين.


(هواري بومدين وأحمد بن بلة يتفقدان صفوف المقاومة الجزائرية)

ما من ملحمة شعرية تخرج للنور إلا وورائها قصة على ميلادها الخالد أبد الدهر، حتى لا تصاب الأجيال القادمة بآفة النسيان وإنعدام الإنتماء للأرض التي تحمل على عاتقها أحلام وهموم وأفراح وأحزان قاطنيها.


(هواري بومدين أحد رموز المقاومة الجزائرية)

شهدت أرض الجزائر قصة ميلاد النشيد الوطني الجزائري في يوم الخامس والعشرين من شهر أبريل من العام 1956 والتي خرجت من جعبة البوق الشعري للثورة الجزائرية الشاعر "مُفدي زكريا" الذي وجد يراعه يستجيب لنداء عبان رمضان، أحد قواد الثورة بضرورة رسم الملحمة الاستقلالية عبر القوافي والأوزان.

كتب زكريا، النشيد في يومين بناءً على جاهزية استشعاره الشعري المتفاعل مع تفاصيل الملحمة خطوة بخطوة، مبرزًا في أبياته المكتنزة أدق التفاصيل قائلاً:

1

قسمًا بالنازلات الماحقات

والدماء الزاكيات الطاهرات

والبنود اللامعات الخافقات

في الجبال الشامخات الشاهقات

نحن ثرنا فحياة أو ممات

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

2

نحن جند في سبيل الحق ثرنا

وإلى استقلالنا بالحرب قمنا

لم يكن يصغى لنا لما نطقنا

فاتخذنا رنة البارود وزنًا

و عزفنا نغمة الرشاش لحنًا

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

3

يا فرنسا قد مضى وقت العتاب

و طويناه كما يطوى الكتاب

يا فرنسا إن ذا يوم الحساب

فاستعدي وخذي منا الجواب

إن في ثورتنا فصل الخطاب

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

4

نحن من أبطالنا ندفع جندًا

وعلى أشلائنا نصنع مجدًا

وعلى أرواحنا نصعد خلدًا

وعلى هاماتنا نرفع بندًا

جبهة التحرير أعطيناك عهدًا

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

5

صرخة الأوطان من ساحة الفدا

فاسمعوها واستجيبوا للندا

واكتبوها بدماء الشهدا

واقرأوها لبني الجيل غدًا

قد مددنا لك يا مجد يدًا

وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر

فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

لحن النشيد الموسيقار الجزائري "محمد التوري"، لكن الصدى لم يظهر في عيون الثائرين لغياب نفحة الحماس من نغماته اللحنية، فانتقل زكريا إلى تونس مستعينًا بنغمات الموسيقار التونسي "محمد التريكي" في مقر البعثة التعليمية الجزائرية بشارع ابن خلدون بالعاصمة التونسية، محاولاً إستلهام موائمة التجربة التونسية للتجربة الجزائرية من خلال وحدة الهدف للخروج من بين أنياب النمر الفرنسي.


(الموسيقار المصري محمد فوزي)

واجه التريكي نفس مصير التوري، لتنتقل الكلمات إلى القاهرة للموسيقار الباسم والمطرب الممثل "محمد فوزي"، الذي وجد فيها ما يعبر عن نفس المصير الذي واجهته مصر ضد القوى الإمبريالية التي سقطت بين أقدامها بخروج أخر جندي بريطاني من أراضيها في 23 ديسمبر من العام 1956.


إستعان فوزي بثقافته الموسيقية الرشيقة الهاضمة لمختلف الألوان ما بين الشرقية والغربية، مضفرًا كلمات الكفاح برحيق نشيد المارسيليز "السلام الوطني الفرنسي" مع حماس الحناجر المرددة للكلمات بأفئدة جزائرية تعبر بأحشائها  عن مدى الملحمية الملتهبة في ساحة المعركة بأرواح عربية وشرقية صميمة.

تبرع فوزي بأجره كاملاً مع منحه للعازفين من جيبه الخاص ما أخرج اللحن بالشكل الذي ظهر عليه كتحيةً واجبة وتقدير حتمي لأبناء الأمير عبد القادر الجزائري في مهمتهم الوطنية والمصيرية.

أعجب رمضان بالنشيد فوافقت جبهة التحرير على صلاحية النغمات المناسبة لما يحدث في الجزر الصغيرة في العام 1957 إلى أن جاء يوم الخامس من يوليه من العام 1963 في الذكرى الأولى لتحرير الجزائر، أعتمد النشيد الخالد عبر الرئيس أحمد بن بلة، كسلام وطني رسمي يردد على الدوام بأفواه مختلف الأجيال.

إدخرت الأيام لفوزي لحظات التكريم على مدار واحد وخمسين عامًا عقب وفاته، ليأتي الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة بمنحه وسام الإستحقاق مع إطلاق اسمه على المعهد الوطني العالي للموسيقى في السادس والعشرين من نوفمبر من العام 2017 كرد عملي، وتلقائي على خلود ما صاغه الموسيقار الكبير من ملاحم وطنية صادقة تقف بالمرصاد لمن يسعى للنيل من الهوية العربية.